زلزال " البريكسيت " إلى أين ؟

يوم الخميس 24 جوان 2016 أجرى الشّعب
البريطاني استفتاء للبقاء ضمن الاتحاد الاوروبي أو الانفصال عنه. و يوم الجمعة 25
جوان 2016 في الصّباح الباكر استيقظ البريطانيون على زلزال ( الخروج من الاتحاد
الأوروبي " البريكسيت " ) و هو يوم لن يُمحى بسهولة من ذاكرة الشّعب
البريطاني . حدث تاريخي لأوّل مرّة يعرفه الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه . فالاتحاد
يخسر واحدا من أهمّ أعضائه ، كقوة اقتصادية و سياسية ، و يمر من 28 عضوا إلى 27
عضوا. فما هي أنواع آثار هذا الزلزال على المملكة المتحدة أوّلا ، و على الاتحاد
الأوروبي ثانيا ؟
الشّعب البريطاني شعب عريق في الدّيمقراطية ،
و عرف دائما كيف يستفيد من خلافاته السّياسية دون المساس بمصالح بلده الأساسيّة. و
بالعودة إلى التّاريخ، إلى سنة 1973 بالضبط
لم يكن دخول المملكة المتحدة إلى تكتل الاتحاد الأوروبي إلاّ لجني المنافع
الكثيرة الّتي كان يمثلها السّوق
الاقتصادي الواسع و الواعد لأوروبا ما بعد الحربين العالميتن. و بعد 43 سنة من
دخول المملكة المتحدة هذا التّكتل الاقتصادي الكوني يتجه البريطانيون نحو الخروج
من الاتحاد بـ 51,9 من الأصوات ، فمثل هذا الحدث زلزالا مُدّويّا و صدمة لم يكن
يتوقعها حتّى أولئك " الأوروفوبيون " المستمسكون بالسّيادة الوطنية و
الحالمون بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي يرون فيه السبب الرّئيسي لمآسيهم
الاجتماعية و السّيادية. فالأسواق المالية إلى آخر لحظة من الاستفتاء لم تكن تصدق
بالحقيقة المخيفة " للبريكسيت" فانهارت العملة في البورصات المالية ، و
خاصة في لندن و باريس و فرانكفورت و نيويورك ، فالحدث كان كونيا تجاوزت أثاره حدود
المملكة المتحدة .
فالتّوتر السياسي أثناء الحملة الانتخابية
للاستفتاء بين أنصار البقاء ضمن الاتحاد و الخروج منه كان على أشدّه إلى درجة أنه
انتهى بدراما اغتيال النّائبة من حزب العمّال " جوـ كوس" . اختلطت
الأوراق سياسيا ، فأحزاب تسقط ، و أخرى تصعد و لكنها لا تعرف ما ذا تصنع بنجاحها .
الجميع يعترف بصعوبة الوضع العام . فرئيس
الوزراء " دافيد كامرون" قررتقديم استقالته من مهامه التي تدخل حيز
التنفيذ بعد انتهاء هذه الفترة الانتقالية حوالي شهر سبتمبر 2016. كما أنّ زعيم المحافظين " بوريس
جونسون" عميد مدينة " لندن " سابقا ، الّذي دفع إلى تنظيم مثل هذا
الاستفتاء وجد نفسه في وضع سياسي جدّ حرج قد لا يستطيع تحمل نتائجه في المستقبل ،
ومبادرته عند البداية لمثل هذا الاستفتاء لم تكن في الحقيقة إلا للضّغط على عاصمة
الاتحاد الأوروبي " بروكسال "و ابتزازها الدّائم من ناحية ، و المزايدة
على حزب " متشائمو أوروبا " " السّين فايين " المعروف بـ " إيكيب " بزعامة "
كاري أدامس " الّذي استعمل بكثافة شعارات شيطنة الاتحاد الاوروبي .
لم تعرف
بريطانيا انقساما لشعبها مثلما عرفته في هذا الاستفتاء . نجد من ناحية سكان
لندن و اسكتلندا و إيرلندا الشّمالية يصوتون بكثافة للبقاء في الاتحاد الاوروبي، و
من ناحية ثانية نجد شكان شمال انكلترا و بلاد " الغال" يصوتون بكثافة
للخروج من الاتحاد .
فالمستمسكون بالسيادة الوطنية و
المحافظون و خاصة من كبار السّن الّذين
يتمنون الثأر من أوروبا و يحنون إلى الرّجوع ببرطانيا إلى ما قبل الانضمام إلى
الاتحاد الأوروبي نجدهم في جهة، و التقدميون و خاصة منهم الشباب و أنصار الإندماج الأوروبي
نجدهم في ناحية ثانية . و يمكن تقسيم المصوتين سوسيولوجيا إلى قسمين :
أنصار الاستقلال عن الاتحاد ، و هم :
ــ سكان الأرياف 55 /100
ــ المسنّون
57 / 100
ــ البطّالة
58 /100
ــ الّذي لا شهائد لهم 64 / 100
أنصار البقاء ضمن الاتحاد ، وهم :
ـــ سكّان المدن 57 / 100
ــ أصحاب الشهائد العليا 71 / 100
ــ الشباب
58 / 100
الاسكوتلونديون ( سكان اسكتلندا ) 62 / 100
بعض ردود الأفعال ، و الآثار السّلبية "
للبريكسيت " على الاتحاد الأوروبي :
و نتيجة لهذا الاستفتاء تضاعفت المبادارات
على " النات " و مختلف شبكات
التواصل الاجتماعي المطالبة بإعادة الاستفتاء ، و لكن بريطانيا بلد عريق في الدّيمقراطية ، و السيادة فيه
للشّعب، فقد قُضِي الأمر الّذي فيه يستفتي
الفريقان و انتهى فـ( البريطانيون
قد أخذوا قرارا واضحا )، هكذا علّق رئيس الوزراء على الحدث.
أمّا الرئيس الفرنسي فقد قال : ( هذا
الاستفتاء يضع أوروبا أمام امتحان عسير، و لا يمكنها أن تستمر كما كانت قبل
الاستفتاء ) . أمّا فاليري جيسكار داستان فقد علّق على الحدث على قناة فرنسا واحد
( ت . ف . 1 ) بقوله ( لقد صنعنا نظاما ليس في مقدوره أن يشتغل و لن يشتغل، و
أوروبا 28 كان بناءها مُرتجلا ). فالمطروح على أوروبا 27 الآن ، حسب زعمائها
السياسيين ، هو إحياء الحلم الأوروبي و إبعاد شبح العَدْوى، و امكانية أثر حجر
لعبة " الديمينو" عن اتحادهم ، فالخوف كلّ الخوف إن استمرت الأمور على
ما هي عليه أن تستيقظ الشّعوب الأوروبيه غدا على " فريسيت " أو إيطيليسيت"
.... كما استقيقظت ذات يوم على زلزال " بريكسيت " . فخصوم أوروبا من
أحزاب اليمين الوطني المتطرف لا يحلمون إلا بانتهاء الاتحاد الأوروبي و وضع حدّ
لحكومته المركزية في" بروكسيل " ، و قد علّق زعيم الحزب اليميني
الإرلندي المتطرف " كيرت ويلدرز " الذي يعمل من أجل خروج إيرلندا من
الاتحاد ( أعتقد أنها نهاية الاتحاد الأوروبي ، و أنّ الرّجوع إلى الوراء مستحيل )
. أمّا زعيم اليسار الرّاديكالي الفرنسي
" جبهة اليسار " " جون ليك ميلونشون " فقد صرّح : ( إن
الاتحاد الأوروبي ، إمّا أنْ نُغَيِّرَهُ أو نُغَادِرُهُ ). و كذلك زعيمة اليمين
المتطرف الفرنسي "الجبهة الوطنية " " ماري لوبان " التي ما
فتئت تنادي باستفتاء شعبي منذ 2013 حول الخروج من الاتحاد الأوروبي فقد وجدت مادّة مهمة في هذا الاستفتاء لخوض حملتها
الانتخابية في رئاسيات 2017.
آثار" البريكسيت "على المملكة
المتحدة :
و لئن كان لزلزال البريكسيت صدى كونيا ، فإن
أثره المباشر و السريع على الوضع العام ،
السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، سيكون بليغا و عميقا و واضحا :
ــ في المستوى الاقتصادي : كلّ المؤسسات
البريطانية و الدّولية حذرت من مغبة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الّذي سوف يؤدي بالضرورة
إلى انهيار " الليرة الاسترلينية " و ارتفاع الأسعار و انخفاض المقدرة
الشرائية للمواطن و تقهقر مستوى الدخل الفردي بنقطتين إلى أربع نقاط و ارتفاع
منسوب البطالة . كما أنّ نقص الدّخل
للعائلات ، حسب بعض الخبراء في الاقتصاد ، قد يصل إلى حدود 3500 أورو في العام على
امتداد خمسة عشر سنة . كما أثر الزلازال على سوق الصّرف كان عنيفا إلى درجة أن
المملكة عرفت تأخرا كقوة اقتصادية من المرتبة الخامسة إلى المرتبة السّادسة بحسب
بعض الملاحظين في الشؤون المالية و الاقتصادية.
ــ في المستوى السّياسي : ستعرف المملكة تقلبات
و ازمات سياسية متتالية . فرئيس الحكومة ( دافيد كامرون) وضع حدّا لمهامه مباشرة
بعد ظهور نتائج الاستفتاء بإعلانه استقالته التي ستدخل حيز التنفيذ نهاية المرحلة
الانتقالية في شهر سبتمبر 2016، ليفسح المجال لخلفه المحافظ ليعالج المشاكل
العويصة و الأشواك الكثيرة المترتبة عن هذا الطّلاق من الاتحاد الأوروبي .
ــ في مستوى الوحدة الوطنية : و من الآثار
السّلبية لـ" لبريكسيت " المباشرة على الوحدة الوطنية للمملكة المتحدة
توجه " اسكتلندا " ، التّي صوتت مساء الخميس 24/6/ 2016 بكثافة للبقاء
ضمن الاتحاد الأوروبي، نحو استفتاء ثان و لكن هذه المرة للانفصال عن المملكة و
الالتحاق بالاتحاد الأوروبي من جديد، فقد صرحت الوزيرة الأولى للحكومة المحلية لـ
"اسكتلندا" السّيدة " نيكولا ستارجون " ( إن استكلندا ترى
مستقبلها ضمن الاتحاد الأوروبي ) . كذلك الشأن بالنسبة لـ " إيرلندا الشّمالية
" صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي ، و هو ما أوحى لتيار " السين
فايين " اليميني الانفصالي بفكرة أجراء استفتاء لتوحيد " إيرلندا "
و " إيرلندا الشمالية " ، و هو ما
قد يعني على المدى البعيد و المتوسط انتهاء المملكة المتحدة في شكلها و
حجمها الحاليين .
و لكن تلك هي سيادة الشّعب و إرادته الّتي
ينبغي على الأنظمة أن تستمع لها و تخضع .
مـــاسي / بـاريس 26/6/2016
أ
. مصطفى عبدالله الونيسي