التّربية الرّوحية و تزكية النّفس
مصطفى
عبدالله ونيسي/باريس
التربية الرّوحية و تزكية النفوس كانتا من أهم
المطالب الّتي تكفل بها الأنبياء عليهم أفضل الصّلاة و أزكى التّسليم بأمر من
ربّهم سبحانه و تعالى. وهي من أغلى الغايات التي سعى إلى تحقيقها المتقون في
حياتهم الدّنيا. فنجاح الإنسان و فشله مرتبط بها إلى حدِّ بعيد.
يقول الله تعالى: (وَمَا أُبَرِّيءُ نَفْسِي
إنَّ النَّفْسَ لأمارةٌ بالسُّوءِ إلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ
رَّحيمٌ.) سورة يوسف/آية 53
و لا طريق لتزكية النّفس وإخلاص القلوب إلاّ
بإداء ما تعبّدنا به الله على الوجه الصحيح المؤسس على الكتاب و السّنة من إقامة
إقامة العبادات وفعل الخيرات والأعمال الصّالحة بكل أنواعها. فبهذا العمل يزداد القلب إيمانا وتزداد النّفس صفاء و اطمئنانا، فينعكس كُلُّ ذلك على
الإنسان نورا و هيبة و وقارا. ونتيجة
لهذا الصفاء وذلك الإخلاص و تلك الطمأنينة تكون علاقة المؤمن بخالقة متينة و قوية
و مبنية أوّلا و أساسا على الحبِّ و الطّاعة و العبودية الخالصة لله ربّ العالمين،
كما أنّ علاقته بالمخلوقات الّتي تحيط به
عموما وبالإنسان خصوصا تكون قائمة على
الرّحمة و حُسن المعاشرة و طِيبِ الخُلُق
.
إنَّ مُجتمعاتنا الإسلاميّة المعاصرة لأسباب
كثيرة قد ابتعدت عن أجواء الحياة الرّوحية ، فصلة القلوب بالله قد ضَعُفتْ، و
تمسكها بالأخلاق المنبثقة عن قيّم الإيمان قد ضَمُرَت إلى أبعد الحدود. وتقلص الإخلاص والوعي بحقوق الله تعالى على
عباده تركا المجال شاسعا لتفشي المعاصي الظاهرة و الخفيّة، فأتى ذلك على صفاء
النّفوس و إخلاص القلوب.و نتيجة لهذا الوضع البعيد عن روح الإسلام تكالب النّاس
على الدّنيا بدون ضوابط لا شرعيّة و لا خُلُقٍيّة ، تاركين وراء ظهورهم ركنا
مُهِمّا مِنْ أركان الإيمان ، ألاَ وهْوَ تزكية النّفس والعمل على البلوغ بها إلى
درجة الإحسان.
ولكن مع
كلّ هذا، فبرحمة من الله تعالى نلاحظ عند الشباب المسلم في كل مكان إرهاصات
عودة للحياة الرّوحية و علامات اهتمام
بموضوع تزكية النّفوس، وذلك لأن الخير لن ينقطع من أمّة محمّد صلى الله عليه و
سلّم، وهي مهما بعدت عن دينها فهي لا بد عائدة إليه إن عاجلا أو آجلا. وخدمة
لمن يريد أن يعيش روحانية الإسلام في بُعْديها التّربوي و الحضاري نُحاول
مُستعينين بالله و بالقدر الّذي تسمح به ظروفنا أن نُعِّدَ مُلخصا في التربية
الرّوحية وتزكية النّفس في الإسلام مُستندين في ذلك إلى كتاب الله تعالى و سنّة
نبيه صلي الله عليه و سلّم ، و مستفيدين من شيوخ الإسلام الكبار في هذا المجال
كالإمام الغزالي، وابن تيمية و تلميذه ابن القيم و المحاسبي و غيرهم..
أهميّة تزكية النّفس و إخلاص القلب :
لا شك أنّ النّعيم الّذي يطلبه الإنسان و
السعادة الّتي ينشدها و النجاح الّذي يسعى إليه سواء في الدّنيا أو في الآخرة،
كُلُّ ذلك مرتبط في المفهوم الإسلامي أيّما ارتباط بتزكية النّفس و السّمو بها وإخلاص القلب و العبودية الكاملة
لله ربّ العالمين. و لذلك كان من أسمى المهمّات الّتي بُعِث نبيّ الرّحمة لإنجازها
تزكية نفوس المؤمنين: ( هو الّذي بعث في الأمّيِّن رسولا منهم يتلو عليهم آياته
و يزّكيهم و يُعلّمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا مِنْ قبل لفي ضلال مُبين )الجمعة
آية 2.
فلا عجب ، إذا، أن يربط الله تعالى فلاح العبد بتزكية نفسه، فالمولى سبحانه
يقسم إحدى عشر مرّة متتالية على وجوب تزكية النّفس، و لا يوجد في
القرآن بأكمله أقسام متوالية على هذا النّسق كما هي في هذا الموقع (1).
يقول
الله تعالى : ( و الشّمس و ضحاها. و القمر إذا تلاها. و النّهار إذا جلاّها. و
اللّيل إذا يغشاها. و السّماء و ما بناها. و الأرض وما طحاها. و نفس و ما سوّاها.
فألهمها فُجورها و تقواها. قد أفلح منْ زكّاها. و قد خاب مَنْ دسّاها)سورة
الشّمس/الآيات (1إلى 10)
فالتزكية معناها طلب الطّهارة و التّطهر، ومنها
سُمّيت صدقة المال بالزّكاة ، لأنّ بها يتحقق تطهير المال و تزكيته بإخراج حق الله
فيه لرّده على الفقراء و المساكين. فمن أراد أن يكون من النّاجين وأصحاب النّعيم و
ورثة جنّة النّعيم ، فما عليه إلاّ أن يعمل على تزكية نفسه و تطهيرها من كلِّ ما
يمكن أن يُعكّر عليها صفاءها و إخلاصها لربِّ العالمين. ومن أجل فهم النّفس البشريّة على حقيقتها نحاول في
الحلقة القادمة التعرض إلى أهم أحوالها لنلتمس الأسباب المعينة على السمّو
و الرّفعة ونتخلص من الأسباب المؤدية إلى السوء و الفحشاء من القول والعمل ، تقربا إلى الله و طاعة و رغبة فيما عنده
سبحانه.
باريس
17جويلية 2011-08-17
مصطفى عبدالله ونيسي
التّربية الرّوحية و تزكية النّفس
أ.
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
ينقسم النّاس إلى قسمين، قسم ظفرت به نفسه فأصبح
عبدا مطيعا لها فأهلكته ودمرته ، وقسم ظفروا بأنفسهم فأحكموا جماحها و سيطروا
عليها فنجحوا بفضل الله تعالى و بلغوا الدّرجات العُلَى. يقول الله تعالى : (و أمّا مَنْ طَغَى وآثر الحياة الدّنيا فإنّ الجحيم هي
المأوَى. و أمّا منْ خَافَ مَقامَ ربِّهِ و نَهَى النّفسَ عن الهوى . فإنّ الجنّة
هِي المأوى)النّازعات/38/40
وصف الله تعالى النّفس في القرآن بثلاث صفات: المطمئنّة،
و اللّوامة، و الأمّارة بالسُّوءِ، و تبعا لذلك اختلف العلماء : هل النّفس واحدة
وهذه أوصاف لها، أم أنّ النّفس ثلاثة أنواع. فالأول رأي أغلب الفقهاء و المفسرين،
و الثاني قول كثير من أهل التصوف ، وبالتحقيق تبين أنّه لا خلاف بين الفريقين، فهي
واحدة باعتبار ذاتها، و ثلاثة باعتبار صفاتها(1)، بل إنّي أذهب إلى أكثر من ذلك،
فالنّفس الأمّارة بالسوء قد تتحوّل بفضل الله تعالى إلى نفس مُطمئنة، و العكس
صحيح. جاء في الحديث الّذي رواه عبدالله بن مسعود قال: قال النّبيّ صلى الله عليه
و سلّم :( .....فوالله الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى
ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها
وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها.) فما هي هذه الصّفات التّي تعتري النّفس البشرية
فتصبغها بصبغتها ؟
1ـ النّفس المطمئنة : و هي نفس المؤمن الماسك بحبل الله المتين الراضي بقضاءه
و قدره و المطمئن لحكمه والواثق من وعده و المصدق بكل ما أخبر به و
المستجيب لأمره و النّاشط في طاعته في
السرّاء و الضراء...
النّفس المطمئنة هي تلك النّفس الهاربة من الشّك
إلى اليقين، و من الجهل إلى العلم، و من الغفلة إلى الذّكر، و من الخيانة إلى
التوبة النّصوح، و من الرّياء إلى الإخلاص، و من الكذب إلى الصدق، و من العجز إلى
عُلُوِ الإرادة و سموّها، و من النرجسية و حبّ الذّات إلى التواضع و نُكران الذّات
و من التيه إلى الرّشاد . فالنّفس إذا كان لها نصيب مِنْ هذه الصّفات كانت نفسا
مُطمئنة بإذنه تعالى.
فالنّفس البشرية إذا ما كان هذا حالها
يرضى عنها الله ويناديها بارئها عند فراق الحياة نداء حُلوا و جميلا: (يا أيتها النّفْسُ المُطمئنة . ارجِعي إلى ربّكِ راضيةً
مَرْضِيّةً )الفجر/ 37،38
إنّهُ لَمِنْ رحمة الله تعالى و بتكليف منه
سبحانه أن يكون قرين
النّفس المُطمئنّة الملَك ، يسدّد خُطاها و يقذف فيها الحقّ و
يرغبها فيه....
2ـ النّفس اللّوامة
: أمّا النّفس اللّوامة ، فهي تلك الّتي تخلط عملا صالحا بآخر سيء.
هي النفس الّتي لا تثبت على حال، فهي كثيرة
التّقلب و التّلون، تُخطأُ ثمّ تتوب
و هي نفس لا يمكن أن ننفي عنها صفة الإيمان، بل
هي مؤمنه و لكنّها مُقصرة في حق الله
تعالى. يقول حسن البصري : إنّ المؤمن لا تراه إلاّ يلوم نفسه دائما...
و النّفس اللّوامة نوعان: لوّامة مَلومة ،
ولوامة غير مَلومة.
فاللّوامة الملومة، هي النّفس الظّالمة والجاهلة، وهي نفس يلومها
الله و ملائكته.
أمّا النّفس اللّوامة غير الملومة،
فهي النّفس السريعة التوبة التي لا تزال
تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة الله ، مع بذله جهده في تدارك تقصيره، فهذه نفس
يمكن أن نصفها بأنّها نفس غير مَلُومَةٍ.
3ـ النّفس الأمّارة
بالسّوء: و هذه النّفس هي النّفس الخبيثة و المذمومة حقّا لأنها لا تأمر
صاحبها إلاّ بما هو خبيث و مخالف للفطرة التي خلق الله النّاس عليها و مَنْ أحسنُ
مِنَ الله خِلقة لا تبديل لخلق الله تعالى ولكن أكثر النّاس لا
يعقلون. وهي نفس ما تخلّص مِنْ شرّها أحد إلاّ بتسديد من الله ورحمة.
يقول الله تعالى: (و
لولا فضلُ الله عليكم و رحمتُهُ ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ
أبَدا )النور
/ الآية 21
فالنّفسُ الأمّارة بالسّوء قرينها الشّيطان
يَعِدُها و يُمَنِّيها و يأمُرها بالسُّوءِ و الفحشاء.
هذه هي الحالات الثلاث الّتي تعتري النّفس
البشرية ، فاختر لنفسك أخي الحبيب حالا يقربك إلى الله و الجنّة،
ويُبَاعِدُك مِنَ النّار و أهلها ، والحمد
لله على كُلِّ حالٍ و نعُوذُ بالله مِنْ حال أهل النّار.
السّبت 20أوت2011 أ. مصطفى عبدالله ونيسي/ باريس
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire