رمز من رموز الحركة الإسلاميّة
رحيل حميدة قطب: حميدة الّتي عرفت
أمّ البراء أ. نجيبة بلحاج
هاتف داخليّ شدّني للكتابة عن حميدة:
الله أكبر و لله الحمد، العالم على كبره صغير، و العمر على سعته قصير ..
فارقتنا منذ أيّام الأخت السّمحة حميدة قطب .. وجدتني أعيش نفس الظّروف و نفس المشاعر الّتي حدّثتني عنها الأخت الرّاحلة عندما رحلت عنها شقيقتها أمينة قطب.. حدّثتني أختي حميدة كيف أنّ ( مجلّة منبر الدّاعيات) طلبت منها أن تكتب مقالا عن أمينة إثر وفاتها سنة 2007م ، و كيف أنّها وجدت صعوبة نفسيّة للكتابة في هذا الموضوع.. و أجدني اليوم أعيش نفس الموقف، و في هذه المرّة، الدّافع إلى الكتابة ليس طلبا خارجيّا إنّما هو هاتف داخليّ يصرخ في أعماق قلبي خُذِي القلم و اكتبي، سجّلي حقائق ما عشتِهِ خلال ما يقارب الثّلاثين سنة مع أختك الرّاحلة، علّك بهذا تُساهمين في نفض بعض غُبار التَّعتيم الإعلاميّ الّذي لقيته هذه الأسرة من جهة و إفادة النّشء الطّالع من الشّباب بهذه التّجربة الحيّة فيعتبر بها في حياته اليوميّة و حركته نحو الله.. و لكن عبثا أحاول .. تُوّفيت حميدة قطب يوم الجمعة مع آذان صلاة الجمعة يوم 13يوليو 2012م قبل أيّام قليلة من بداية شهر رمضان، و نحن الآن في شهر شوّال، و لم يتحرك القلم إلاّ الآن مع محاولاتي المتكرّرة السّابقة للإمساك به لهذا الغرض النّبيل، فمن حقّها عليّ و على كلّ من عرف حقيقة شخصيّة حميدة أن يذكر لها ما قدّمت. بل من حقّ الإنسانيّة جمعاء أن تذكر مناقبها الآن بعد أن لقيت ربّها. ففي حياتها كانت متجرّدة للّه، آخر شيء تفكّر فيه هو نفسها و تكره حبّ الظّهور . فكانت جنديّة من جنود الخفاء إذا ما نظرنا إلى حقيقتها و حقيقة ما قدّمت.
ثبات على الحقّ وسماحة وقُدرة على تفهم الشّباب الناشئ في الغرب:
و هذا القلم أعجز مِن أن يُعبِّر عمَّا يجيش في القلب من خواطر بعد رحيل الأخت الحبيبة حميدة قطب، فما بالك بأن يُسجل أو يرسم حقائق حياة كاملة مليئة بالعطاء و الصّبر و التّسامح ومحبّة الآخر مع الثّبات على الحقّ.. سماحة و بسمة لا تفارق تقاسيم الوجه و هي تنطق بقوّة الحقّ، بل تسطع به و هي شامخة أبيّة، لا لفّ و لا دوران و لا ذُلَّ و لا هوان، شموخ و علّوٌ في الحقِّ لا يُناقض تفهّم الآخر ، خاصّة الجيل الجديد من الشّباب المسلم الّذي يعيش في ديار الغرب و الّذي وجد نفسه مخضرما بين ثقافتين لا يعرف أيّ موقف يقف ، أ يتبنّى الأولى أم الثّانية .. فيضطرب و تضطرب حياته، فتراها تحتضن هذا الاضطراب بقلبها المملوء حبّا للإنسان و بعقلها الرّاجح و علمها العقائديّ المتأصّل و خبرتها بتاريخ الإنسانيّة وهي خرّيجة الجامعة، اختصاص تاريخ .. فتعرف كيف تضع الإصبع على السّبب و المتسبّب في الخلل. و تتبيّن الضّحيّة من الفاعل الحقيقيّ المؤدّي لهذا الاضطراب، فتُوجّه و تُرْشِد، إرشادا مجديا ينفذ إلى القلوب ويؤثّر فيها.
لقائي بحميدة: المسار و المآل
القلم حقيقة أعجزُ مِنْ أَنْ يخُطَّ حقائق عشتها طيلة ثلاثين سنة من العمر في مدينة ماسّي بفرنسا ، مع الأخت الرّاحلة إلى ربّ كريم رحمن رحيم، هذا القلم أصغر من أن يلمس حتّى مجرّد اللّمس هذه الحقائق. و لكن أحاول أن أنقل بعض ما دار في نفسي من خواطر لها صلة بهذه الحقائق..
عرفتُ الأخت الحبيبة إلى القلب حميدة قبل أن أحلّ بفرنسا سنة 1981م، عرفتها كفرد من أسرة مجاهدة رعاها الأستاذ الشّهيد سيّد قطب، عرفتها عبر ما نُشر من كتب و مؤلفات للأستاذ الشّهيد نسأل الله له القَبُول و الرّحمة و الأستاذ محمّد أخوه الأصغر نسأل الله له الحفظ و الرّعاية و النّفع به.
و علمت أنّها مُقيمة في باريس صحبة زوجها الفاضل الدّكتور حمدي مسعود.. و كنت حينئذ أبحث عن الإسلام الّذي أراده الله لتسير به البشريّة و تُعّمر به الأرض .. فقد شعرتُ وقتها بأنّ ما عليه المجتمع الّذي كنت أعيش فيه هو بقايا إسلام و أغلبه تقاليد وضعها الإنسان لنفسه أو جلبها المستعمر له حلّت شيئا فشيئا محلّ حقيقة الإسلام و التّربية على مبادئه .. و كانت ثَمَّة بداية صحوة إسلاميّة تريد أن تنفض الغبار الّذي عَلِق بإسلام النّاس هناك و ضيّع الكثير منه، رغم كون أنّ هذا الغبار لم يقض على العاطفة الّتي تزخر بها قلوب النّاس هناك لحساب هذا الدّين.. و دعوت الله و أنا أتلمّس طريقي نحوه سبحانه و تعالى أنْ يُعرّفني بما يُحبّه و بمن يُحِبّه و يُلْهِمنِي الرُّشد و إن كان ذلك بنقلي إلى أيّ مكان في العالم، المُهّم أن أجد طريقي إلى الله كما يحبُّه الله…
و عبر الابتلاء، و كأنّ الله استجاب لدعائي، وجدْتُنِي في باريس جارة للأخت حميدة قطب منذ سنة 1982م إلى الآن..إلى لحظة وفاتها، ولم تكن مجرّد جارة لي، فقد كانت أسرة لي بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى، بل من معاني..
حميدة: الجمع بين الانفتاح و الثّبات على الحقّ
شهادة حقٍّ وجدت الإسلام يتحرّك في بيتها، في شخصها، في علاقتها بالمسلمين ممّن كانوا يطلبون زيارتها للاستفادة من علمها و تجربتها سواء اختلفت أو اتّفقت معهم، سواء عادوها أو صاحبوها.. في علاقتها بغير المسلمين من أصدقاء زوجها في العمل و غيره ، أو الّذين عرفتهم هي عندما كانت تدرس في الجامعة الفرنسيّة.. أو من جيرانها ..
وَجَدْتُنِي أُجاور قمّة من قمم الانفتاح على الآخر و رمزا من رموز التّواضع والتّجرّد للّه و محبّة الآخر و إن اختلفت معه في الرّأي. تعلّمت منها أنَّ الإنسان يحبّ الإنسان و لا يمكن للإنسان أن يكره مخلوقا من مخلوقات الله السّابحة في كونه الممتّد. و إنّما الّذي يكرهه بقوّة و بلا مداراة و لا نفاق العمل الّذي لا يُرضي الله، العمل المضّر بالبشريّة و الّذي يمكن أن يهوي بها إلى متاهات لا قبل للإنسان ذاته بها، و إن سمح الإنسان لنفسه أن يخوض معركة مع أخيه فلحساب استنقاذ البشريّة من هذه المتاهات المهلكة.
عرفت فيها نقيض ما تروّجه بعض وسائل الإعلام عن هذه الأسرة و عنها هي من أمثلة القول أنّهم ارهابيّون و منغلقون أو ما شابه ذلك.. و في الوقت ذاته هي قمّة من القمم الثّابتة على الحقّ التّي لا تخاف في الله لومة لائم و تصدع به دون تردّد و دون تلكؤ .. فأحببتها في الله، و أحبّها كلّ جيرانها..كلّ من عرفها.أذكر أُسرة أحد المسؤولين الكبار عن المعبد اليهودي الملاصق لشقّتها.. و سبحان الله يوم وفاتها، كنت نازلة من شقّتها واعترضتني زوجة هذا الجار و أنا أركب مصعد العمارة، فبادرتني بالقول ..مساء النّور، كيف حال السيّدة مسعود( يعني الأخت حميدة)؟ هي سيّدة جِدُّ طيّبة .. هي شخصيّة تُحبّ، هي متميّزة.. هذه شهادة عفويّة تلقائية صدرت من جارتها غير المسلمة يوم وفاتها وهي لا تعلم أنّها فارقت.
قِصّة بسيطة في ظاهرها عميقة في أبعادها أحبّ أنْ أنقلها أيضا ضمن هذه الخواطر الّتي أكتبها: كنت عند أختي الرّاحلة يوما و حدثّتني و الأخت عزيزة، رفيقة دربها و مُقيمة عندها، فقالتا : جارنا المُلاصق لنا له كلب اعتدنا سماع نُباحه دائما.. و منذ أيّام غاب هذا النُّباح ..فهذا أمر غريب .
و عرفنا بعد فترة أنّ الكلب مات. فلمست رأفة و حُزْنا لغياب هذا الحيوان في ملامح الأختين.. و نحن نعلم ما هي عقيدة المسلم فيما يتعلّق بتربية الكلاب في الشُّقق.. درجة راقية في الإحساس بالآخر و محبّة الآخر سواء كان انسانا أو حيوانا و مهما كانت المعتقدات .. هذا الحبّ الرّاقي للآخر لم يمنعها مِنْ أنْ تصدع بالحقّ متى وجب ذلك.. أذكر يوما اسْتُضِفْنا معا عند جارة أمريكيّة مُتّزوجة من أمريكي من أصل يهودي و اعتنق البروستانتينيّة ، أتيا إلى فرنسا لمهمّة يقومان بها في الكنيسة البروستانتينيّة و دار حوار ساخن في بيت الجارة حول علاقة أمريكا بحرب العراق أيّام صدّام حسين فرأيت في حميدة قُوَّة في الحقّ عالية مُصاغة بخُلُقٍ دمِثٍ لا يمكن للعدوّ إلاّ أن يحترمها أو أن يسكت ولو على مضض.. فالحقّ يعلو و لا يُعلَى عليه أيّا كانت المواقف، وأيّا كان المكان، و أيّا كانت الأحداث،إذا كان الإنسان واثقا بمبادئه قوّيا بالله و في الله.
لا أستطيع في هذا المقال الصّغير أن أذكر كلّما سجّلته الذّاكرة في حياتي مع حميدة العزيزة .. ولكن أذكر إجمالا علاقاتها بأساتذتها في الجامعة الفرنسيّة، بالطُّلاب هناك مسلمين و غير مسلمين، فرنسيين و غيرهم، علاقتها بالأطبّاء و الممرضين و الممرضات في المستشفيّات التّي تردّدت عليها للعلاج .. محبّة الجميع و احترامهم لها أينما حلّت و أينما وُجِدَت لسماحة خُلُقها و لقّوة عقيدتها و إن خالفوها.
حميدة سلوك متميّز و أخلاق راقية :
بحثت في كلّ اللقاءات و الجلسات.. في كلّ اللّحظات الّتي التقيت بها مع حميدة في بيتها، في بيتي، عند الآخرين، في السّيارة، في الشّارع، فما وجدت لحظة لغو واحدة في عمر حميدة الّذي عرفته و عشته معها.. فإن تحدّثت فلحساب الحقّ، و إن صمتت فلحساب الحقّ، و هذا لم يمنع مِنْ أنْ تكون الجلسات معها شيّقة و مُحَبَّبَة لمن حضرها للصّغير و الكبير، للمسلم و غير المسلم، للغريب و القريب، للمُخْطئِ و المُصيب في حقّها.
حميدة الأديبة
كثيرا ما شغلت نفسها بالقراءة و طلب المعرفة إلى آخر لحظة في حياتها، كانت مطالعاتها مُتّنوعة ، شغُوفة بالأدب و كان كلُّ ذلك لحساب المعرفة و متابعة الأحداث و الاهتمام بالآخر. و قد خلّفت حميدة وراءها كتبا مطبوعة أذكر منها : رحلة في أحراش اللّيل،و نداء إلى الضّفة الأخرى و العديد من المقالات المنشورة و غيرها من المخطوطات الّتي لم تطبع من بينها رسالة حول حادثة التّحكيم بين علي و معاوية باللّغة الفرنسيّة.
رأيت في حياتها تُرْجمانا حيّا لما عبّر عنه الإمام الشّافعي رضي الله عنه في البيت التّالي:
أينما ذُكِرَ اسم الله في بلد يُعَدُّ أَرْجاؤه مِنْ لبِّ أوْطَانِي
و أيضا:
سافِر تَجِدْ عوضا عمّن تفارقه وانصب فإنّ لذيذ العيش في النّصبِ.
فحتّى سفرها لم يكن مرّة واحدة لحساب ذاتها بل كان دائما لحساب الواجب وما يرضي اللّه، وكانت سعيدة بذلك مهما كانت المشاقّ، تستمدّ تلك السّعادة من شعورها بإرضاء اللّه.
و حجم شخصيّة حميدة جدير بأن يؤلّف فيه كتاب يتناول دراسة حياتها من جوانبها المتعدّدة: حميدة الإنسان، حميدة العابدة و الحافظة لكتاب الله،حميدة المرّبية،حميدة الدّاعية ، حميدة الصّبورة المُحتسبة و المجاهدة، حميدة الحقيقة بالشّهرة الزّاهدة فيها و حميدة الأديبة.
أسأل الله أن يتقبّل منها هذا العمر الّذي سخّرته للجهاد في سبيله بالكلمة الطّيبة ، بالعمل الصّالح، بالثّبات على المبدإ و إن اقتضى ذلك الصّبر على السّجون ( و قد قضت الأخت حميدة ما يقارب السّبعة سنوات في سجون جمال عبدالنّاصر في زنزانة و المجاهدة زينب الغزالي يرحمهما الله)،و أسأله سبحانه و تعالى أنْ لا يفتننا بعدها و أن يُلحقنا بها في مقام رحمته يوم لا ظلّ إلاّ ظلُّه.
باريس 21أوت 2012
أمّ البراء أ. نجيبة بلحاج
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire