الهوية والمواطنة الإصلاح ووسائل التغيير
- العبور من الافتراضي إلى السوسيولوجي.
- سيكولوجية ثورة الخوف.
- منطق الثورة وحيرة السياسة.
1. العبور من الافتراضي إلى السوسيولوجي:
بعيون حداثية تتحوّل الثورات العلمية والتكنولوجية دائما إلى حدث سياسي مزلزل، فبعد الثورة الكوبرنيكية وما هيّئت له من سقوط للأنظمة السياسية القروسطية في أوروبا والثورة الصناعية التي فجرت الثورات الاشتراكية جاء دور الثورة الاتصالية لتفرز ما نشهده من ثورات في المنطقة العربية وربما علينا أن نتوقع تحولات أخرى بعد الثورة البيولوجية التي بدأت تشق طريقها منذ حين.
فقوى التغيير السياسي في الواقع العربي أعيتها الحيلة وهي تبحث عن منفذ للواقع تستطيع عبره مخاطبة الجمهور وتعبئته للتصدي للظلم والاستبداد. وكانت العقود الأربع الأخيرة تاريخا طويلا من الفشل المتراكم والمعيق لإحداث هذا التغيير. وفي الوقت الذي ثقلت فيه يد الدكتاتورية على رقاب الأحرار والمناضلين، نشأ جيل بين صفحات تواصلية على الفايس بوك والتويتر والدايلي مويشن وغيرها من المواقع الافتراضية في شبكة النات. بدأ هذا الفعل التواصلي بسيطا وسطحيا بدردشة او معاكسة لكنه انتهى فعلا تغييريّا عظيما في التاريخ المعاصر. وجدير بالباحثين هنا التوقف للبحث في شروط هذا التحول من الافتراضي إلى الواقعي. على الأقل كان العلم الحديث يشد خطابه دائما على هذا المبنى الأكسيومي بين افتراضية المنطلقات وواقعية النتائج، وكان الجميع يسلّم بذلك ماداموا جعلوا أنفسهم أدوات لنمذجات نسقية حديثة.
أمّا أن يؤول الأمر على هذا المنوال إلى الفضاء السوسيولوجي فما كان له ليحصل لولا تحول الثورة الذي عاشتها المنطقة العربية. ومع ذلك فإنّ تأويل الأمر على انه قانون علمي يؤول به الباحث من الفرضي إلى الحتمي، لا يعبر عن كل شروط إمكان تحقق هذه الثورة. فالذهاب من الافتراضي إلى السوسيولوجي احتكم إلى إرادة والى منظومة قيمية اكتمل بهما التفاعل الكيميائي للثورة. فالشباب الذي جمعته المحادثات النصية القصيرة استطاع أن يبني جسرا من الثقة البينية الضرورية لتشكيل أية إرادة جماعية. إن الثقة في عمقها استجابة إرادية لوضع من الانفتاح الإنساني الأقصى. كان شباب النات يترجم ببساطة تعبيراته صدقا فطريا يهرب به من مغالطات الواقع إلى صفاء عالمه الافتراضي. شق شباب الثورة طريقهم فارين من واقع الاضطهاد والاستلاب إلى عالم افتراضي يستطيعون أن يعبّروا فيه بحرية كانوا دائما يفتقدونها في الواقع. فلقد كان الافتراضي ضربا من الوهم الفردي أو هو حلم فردي معزول فلما أن أصبح الحلم جماعيا بدأ يتحقق أو هكذا غنت إحدى الفنانات البرازيليات.
2. سيكولوجية ثورة الخوف:
ربما لو أردنا وصفا جامعا مانعا للواقع العربي قبل التحولات الأخيرة لملأته عبارة الخوف. كان عالمنا عالم خوف في الوقت الذي تصمّ فيه آذاننا بالحديث عن الأمان. وهذه مفارقيّة أنطولوجيّة خطيرة في تأثيرها على التوازنات النفسية وتلك المتعلقة بالوعي. فالكائن السياسي الذي يستشعر، بما عنده من ملكات تتجاوز المباشرتية في فاعليتها، وضعا حادا من الخوف يواجه صورة نفسية عمومية تصنعها آلة مهيمنة على الواقع. لذلك لم يكن من السهل تحرر هذا الكائن السياسي من هذه الصورة، بل ولم يكن ممكنا له التخلص منها بما يتراكم من وعي. الخروج المتدفق للآلاف من الشباب في زمن قصير يعكس هذه الصعوبة النفسية. فأمام سجن الوعي في صورة المجتمع الآمن، منع الخوف الموضوعي عند فئات مجتمعية عديدة من أن يجد تصريفه الطبيعي.
لقد لاحظنا خلال هذه الثورات المتتالية نسق تصاعد المطالب الاجتماعية الى سياسية والاصلاحية الى ثورية والمرحلية الى فورية. هل كان ذلك تكتيكا سياسيا؟ اذن من المفترض وجود عقل سياسي موجه للثورة. لكن لم تستطع الة الانظمة المستبدة البرهنة على ذلك برغم ما تملكه من امكانيات الرقابة والقمع. التفسير هنا نجده في عامل الخوف.
الخوف الذي تحول من معيق الى مفجّر ثم الى قلق وحيرة.
ربما يعتقد المستبدون الذين يشتغلون على زراعة الخوف في مجتمعاتهم انهم بذلك يؤمنون سلطانهم. ربما يكون ذلك صحيحا اذا ما اكتفت هذه الانظمة بالمقدار المناسب من الخوف وصرفته داخل المجتمع بالاليات الذكية والمرنة التي تتوخاها بعض الانظمة حتى تلك التي تنعت على انها ديمقراطية. فالانغلاق التام وسد كل المنافذ على تصريف الشعور بالخوف بما في ذلك محاصرة العنف الاجتماعي والتغاضي على الأحداث المعزولة واستعمال الرموز بشكل ساذج، كل ذلك يدفع لحالة من الاحتقان الذي يعبر عن بنية عميقة من الخوف لكنه خوف متدفق لا خوف كامن.
الآن وقد ملأ الخوف شوارع المدن لم لا يعود إلى مكامنه المعزولة؟
هو السبب نفسه الذي أشعل نار هذه الثورات أي الخوف ذاته. نلاحظ هنا كيف يتحول الشعور بالخوف شيئا فشيئا إلى شعور ايجابي أي محفز على الفعل والمبادرة بدل أن يكون عائقا كما أراده الطغيان. الخائف هو الذي لا يتردّد ولا يتراجع عندما يصبح الخوف دافعه للفعل. لذلك كنا نرى هذا النسق المتصاعد من الزخم في المطالب وفي التحشيد الجماهيري للتعبير عن الخوف العمومي في مجتمع الاستبداد.
فالوعي كبنية ذهنية حاصل، لكنه لم يكن كاف لإحداث مثل هذه التغييرات لأسباب متعددة. أولا لان الوعي المتراكم وفق التسلسل المنطقي كان يجب أن يعبر عن نفسه هيكليا ضمن النسيج المجتمعي المنظم قبل أن يتحول إلى قوى صانعة للثورة وهذا لم يحصل في كل الثورات العربية التي حصلت حد الساعة. ثانيا لان تلبس هذه الثورات في مسارات تحققها بهذا الحجم من الوعي المفترض لانجاز ثورة كان غائبا بإجماع الملاحظين.
فما الذي كان يحصل بالتدقيق إذن؟
بالنظر إلى علم النفس الاجتماعي فان هذه الثورات تضمنت وعيا خائفا تفجر بدافع تلقائيّة انسيابه في حراك عفوي يخشى من أن تراجعه في لحظة ما يمكن أن يجعله فريسة الاستبداد. لذلك كانت مطالب الجمهور الثائر قصوى في تعبيراتها الكاملة وقاطعة في مبدئيتها. ولأنّ هذا الخوف لا يزال يتملك مشاعر الناس نرى شباب الثورة يدفع بأنفاس جديدة في الشارع تحت مسميات حماية الثورة أو أمناء الثورة أو غيرها من التعبيرات السياسية الثورية ذات الطابع العفوي ولكن غير الحزبية أو المهيكلة إلا في حدها الأدنى.
3. منطق الثورة وحيرة السياسة:
الثورة حادثة خارقة، كما الكسوف وربما أكثر لان قوانين الطبيعة أضحت اليوم ذات صرامة أحالت الكثير مما كان يبدو معجزا إلى واقع موضوعي. لكن الثورة مازالت إلى الآن لم تنشئ منطقا خاصا بها ولا هي سكنت لما هو متوفر من أدوات التحليل المنطقي العقلاني. وربما لا يتحقق من أي محاولة لأفهمة حادثة ثورية ما سوى السيطرة والتوجيه أي ممارسة السلطة باعتبار أن الوعي بالشيء يفضي حتما إلى الهيمنة عليه في هذه الابستيمية المعاصرة. ولان الثورة استهدفت السلطة فلا غرو أن نجدها تفلت من كل سلطة سياسية كانت أو معرفية. لذلك لا نطمح حقيقة تأسيسا معرفيا لمنطق الثورة، إنما من المفترض أن تتعلم الإنسانية من ظاهرة تعميم الغضب وإغراق الواقع ثورة على نواميسه التقليدية. ومثلما تتكشف لنا أحيانا ظواهر كونية على أنّها خوارق لا تتكرر إلاّ مرة أخرى فنستغل ظهورها لنتعلم منها، كذا أمر الثورة. يجب أن تجلس نخبنا وتمرغ انفها في التراب أمام هذه الثورات المتفجرة في أنحاء المنطقة العربية وتصبر على التعلم منها صبرها على بلوغ الحكمة. وانه لباعث على العجب حقا أن نقرأ كتابات غير ثورية في مثل هذه الثورات المعاصرة، نصوص تسحب الماضي على الحاضر في تغاض بغيض عن حدة الانكسار المفترض في واقع التحولات الثوريّة. نشهد ذلك في استمراء الحديث عن الحرّيات والدّيمقراطية في سياقاتها المشهديّة الليبرالية مثلا، ألم يستحضر هؤلاء ما يفترضه السياق الليبرالي من نهاية لتاريخ الثورات؟ إنّني حقا لأعجب كيف يمكن لثورة تستبطن ضرورة معاني التغيير الجذري العنيف والفجائي وبالطفرة أن تتماهى مع مطالب النظرية الليبرالية القائمة على مفهوم الاتجاه الأفقي للتاريخ، اللهم إلا إذا كانت من قبيل العقاقير الصيدلية المحافظة على الوزن، ثورة لايت.
لذلك أعتقد أن مسؤولية الوفاء لهذه الثورات تفترض الاشتغال على ثلاثة مستويات من المراجعات: أوّلا: مراجعات ابستمولوجية للبناء المعرفي الإنشائي الوضعي الذي هيمن على العلوم الإنسانية وقطعها عن مواردها المجتمعية والقيمية والتاريخية بما أدى إلى حالة الإبهام التي تخترق الوعي العربي في مواجهة هذه الثورات.
ثانيّا: مراجعات في الفكر السياسي حول الحكم الرشيد، والوحدة الثقافيّة والتنوّع السياسي، والعمق المجتمعي للدولة، والحاجة للمجتمع الأهلي في سياق نمط حياتي متحرّر من شكلانيّة التنظيمات القانونية العصريّة، والتعاطي مع روح القوانين وأهمية مراعاة ذلك في التشريع والتنزيل وغيرها من قضايا الفكر السياسي.
ثالثا: مراجعات تأسيسية وواقعيّة تخص نسق الفعل المجتمعي وقدرة الحياة الحزبية على التعبير عن الحالة العربية الراهنة، والنخب التقليدية في علاقتها بمجتمعاتها، وبروز نخب جديدة وتموقعها ودورها، والتعبير العفوي داخل المجتمع وارتباطه بالمشروعية الواقعيّة.
في ما يبدو لي أن هذه المراجعات ضرورية أما لمحاولة فهم هذه الثورات التي تجتاح الواقع العربي الجامد منذ نصف قرن، وأما تعبيرا عن ايجابية العقل العربي واستعداده للوقوف والتتلمذ عليها عله يستطيع أن يشق طريقه من جديد في دورة الإنتاج الحضاري الإنساني. أذكر أنّ فيلسوفا عظيما قال ذات يوم أنّ الفكر كبومة مينيرفا لا يطلع إلا آخر النهار عندما يكون الواقع قد شارف على إتمام دورته.
في النهاية ما يبعث على القلق أن ثورة الخائفين قد أنجزت بين حالتين متقاربتين لا يوحي التنقل بينهما بالطفرة التي من المفترض أنها خاصية الثورة، هما الخوف الذي تفجر في وجه الاستبداد والحيرة التي خلفها هذا الخوف.
ثورة الخائفين وحيرة الثائرين: مقاربة إنسانية
كثيرا ما حلمنا نحن أجيال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بهذه الثورة العظيمة التي تجتاح عالمنا العربي هذه الأيام. لكن لا اعتقد أن أحدا منا كان يعني بتسمية الثورة ما نشاهده اليوم من استرسال للأحداث ومن تداع للوقائع. ربما لأننا كنا نرى هذه الثورة في ثقافة الآخرين اقتلاعا من الجذور عنيفا وتحوّلا في موازين القوى شديدا، فكنا لذلك نتوقع طعما للثورة ترتعد عنده فرائصنا انتشاء مشتقا من نصر الثائرين. لكن ثورة الشباب من اجل الكرامة لم تأت على النسق الذي انتظرته تلك الأجيال ولا على المعنى الذي حوته المعاجم وكتب التاريخ. فما المختلف في هذه الثورة؟
- العبور من الافتراضي إلى السوسيولوجي.
- سيكولوجية ثورة الخوف.
- منطق الثورة وحيرة السياسة.
1. العبور من الافتراضي إلى السوسيولوجي:
بعيون حداثية تتحوّل الثورات العلمية والتكنولوجية دائما إلى حدث سياسي مزلزل، فبعد الثورة الكوبرنيكية وما هيّئت له من سقوط للأنظمة السياسية القروسطية في أوروبا والثورة الصناعية التي فجرت الثورات الاشتراكية جاء دور الثورة الاتصالية لتفرز ما نشهده من ثورات في المنطقة العربية وربما علينا أن نتوقع تحولات أخرى بعد الثورة البيولوجية التي بدأت تشق طريقها منذ حين.
فقوى التغيير السياسي في الواقع العربي أعيتها الحيلة وهي تبحث عن منفذ للواقع تستطيع عبره مخاطبة الجمهور وتعبئته للتصدي للظلم والاستبداد. وكانت العقود الأربع الأخيرة تاريخا طويلا من الفشل المتراكم والمعيق لإحداث هذا التغيير. وفي الوقت الذي ثقلت فيه يد الدكتاتورية على رقاب الأحرار والمناضلين، نشأ جيل بين صفحات تواصلية على الفايس بوك والتويتر والدايلي مويشن وغيرها من المواقع الافتراضية في شبكة النات. بدأ هذا الفعل التواصلي بسيطا وسطحيا بدردشة او معاكسة لكنه انتهى فعلا تغييريّا عظيما في التاريخ المعاصر. وجدير بالباحثين هنا التوقف للبحث في شروط هذا التحول من الافتراضي إلى الواقعي. على الأقل كان العلم الحديث يشد خطابه دائما على هذا المبنى الأكسيومي بين افتراضية المنطلقات وواقعية النتائج، وكان الجميع يسلّم بذلك ماداموا جعلوا أنفسهم أدوات لنمذجات نسقية حديثة.
أمّا أن يؤول الأمر على هذا المنوال إلى الفضاء السوسيولوجي فما كان له ليحصل لولا تحول الثورة الذي عاشتها المنطقة العربية. ومع ذلك فإنّ تأويل الأمر على انه قانون علمي يؤول به الباحث من الفرضي إلى الحتمي، لا يعبر عن كل شروط إمكان تحقق هذه الثورة. فالذهاب من الافتراضي إلى السوسيولوجي احتكم إلى إرادة والى منظومة قيمية اكتمل بهما التفاعل الكيميائي للثورة. فالشباب الذي جمعته المحادثات النصية القصيرة استطاع أن يبني جسرا من الثقة البينية الضرورية لتشكيل أية إرادة جماعية. إن الثقة في عمقها استجابة إرادية لوضع من الانفتاح الإنساني الأقصى. كان شباب النات يترجم ببساطة تعبيراته صدقا فطريا يهرب به من مغالطات الواقع إلى صفاء عالمه الافتراضي. شق شباب الثورة طريقهم فارين من واقع الاضطهاد والاستلاب إلى عالم افتراضي يستطيعون أن يعبّروا فيه بحرية كانوا دائما يفتقدونها في الواقع. فلقد كان الافتراضي ضربا من الوهم الفردي أو هو حلم فردي معزول فلما أن أصبح الحلم جماعيا بدأ يتحقق أو هكذا غنت إحدى الفنانات البرازيليات.
2. سيكولوجية ثورة الخوف:
ربما لو أردنا وصفا جامعا مانعا للواقع العربي قبل التحولات الأخيرة لملأته عبارة الخوف. كان عالمنا عالم خوف في الوقت الذي تصمّ فيه آذاننا بالحديث عن الأمان. وهذه مفارقيّة أنطولوجيّة خطيرة في تأثيرها على التوازنات النفسية وتلك المتعلقة بالوعي. فالكائن السياسي الذي يستشعر، بما عنده من ملكات تتجاوز المباشرتية في فاعليتها، وضعا حادا من الخوف يواجه صورة نفسية عمومية تصنعها آلة مهيمنة على الواقع. لذلك لم يكن من السهل تحرر هذا الكائن السياسي من هذه الصورة، بل ولم يكن ممكنا له التخلص منها بما يتراكم من وعي. الخروج المتدفق للآلاف من الشباب في زمن قصير يعكس هذه الصعوبة النفسية. فأمام سجن الوعي في صورة المجتمع الآمن، منع الخوف الموضوعي عند فئات مجتمعية عديدة من أن يجد تصريفه الطبيعي.
لقد لاحظنا خلال هذه الثورات المتتالية نسق تصاعد المطالب الاجتماعية الى سياسية والاصلاحية الى ثورية والمرحلية الى فورية. هل كان ذلك تكتيكا سياسيا؟ اذن من المفترض وجود عقل سياسي موجه للثورة. لكن لم تستطع الة الانظمة المستبدة البرهنة على ذلك برغم ما تملكه من امكانيات الرقابة والقمع. التفسير هنا نجده في عامل الخوف.
الخوف الذي تحول من معيق الى مفجّر ثم الى قلق وحيرة.
ربما يعتقد المستبدون الذين يشتغلون على زراعة الخوف في مجتمعاتهم انهم بذلك يؤمنون سلطانهم. ربما يكون ذلك صحيحا اذا ما اكتفت هذه الانظمة بالمقدار المناسب من الخوف وصرفته داخل المجتمع بالاليات الذكية والمرنة التي تتوخاها بعض الانظمة حتى تلك التي تنعت على انها ديمقراطية. فالانغلاق التام وسد كل المنافذ على تصريف الشعور بالخوف بما في ذلك محاصرة العنف الاجتماعي والتغاضي على الأحداث المعزولة واستعمال الرموز بشكل ساذج، كل ذلك يدفع لحالة من الاحتقان الذي يعبر عن بنية عميقة من الخوف لكنه خوف متدفق لا خوف كامن.
الآن وقد ملأ الخوف شوارع المدن لم لا يعود إلى مكامنه المعزولة؟
هو السبب نفسه الذي أشعل نار هذه الثورات أي الخوف ذاته. نلاحظ هنا كيف يتحول الشعور بالخوف شيئا فشيئا إلى شعور ايجابي أي محفز على الفعل والمبادرة بدل أن يكون عائقا كما أراده الطغيان. الخائف هو الذي لا يتردّد ولا يتراجع عندما يصبح الخوف دافعه للفعل. لذلك كنا نرى هذا النسق المتصاعد من الزخم في المطالب وفي التحشيد الجماهيري للتعبير عن الخوف العمومي في مجتمع الاستبداد.
فالوعي كبنية ذهنية حاصل، لكنه لم يكن كاف لإحداث مثل هذه التغييرات لأسباب متعددة. أولا لان الوعي المتراكم وفق التسلسل المنطقي كان يجب أن يعبر عن نفسه هيكليا ضمن النسيج المجتمعي المنظم قبل أن يتحول إلى قوى صانعة للثورة وهذا لم يحصل في كل الثورات العربية التي حصلت حد الساعة. ثانيا لان تلبس هذه الثورات في مسارات تحققها بهذا الحجم من الوعي المفترض لانجاز ثورة كان غائبا بإجماع الملاحظين.
فما الذي كان يحصل بالتدقيق إذن؟
بالنظر إلى علم النفس الاجتماعي فان هذه الثورات تضمنت وعيا خائفا تفجر بدافع تلقائيّة انسيابه في حراك عفوي يخشى من أن تراجعه في لحظة ما يمكن أن يجعله فريسة الاستبداد. لذلك كانت مطالب الجمهور الثائر قصوى في تعبيراتها الكاملة وقاطعة في مبدئيتها. ولأنّ هذا الخوف لا يزال يتملك مشاعر الناس نرى شباب الثورة يدفع بأنفاس جديدة في الشارع تحت مسميات حماية الثورة أو أمناء الثورة أو غيرها من التعبيرات السياسية الثورية ذات الطابع العفوي ولكن غير الحزبية أو المهيكلة إلا في حدها الأدنى.
3. منطق الثورة وحيرة السياسة:
الثورة حادثة خارقة، كما الكسوف وربما أكثر لان قوانين الطبيعة أضحت اليوم ذات صرامة أحالت الكثير مما كان يبدو معجزا إلى واقع موضوعي. لكن الثورة مازالت إلى الآن لم تنشئ منطقا خاصا بها ولا هي سكنت لما هو متوفر من أدوات التحليل المنطقي العقلاني. وربما لا يتحقق من أي محاولة لأفهمة حادثة ثورية ما سوى السيطرة والتوجيه أي ممارسة السلطة باعتبار أن الوعي بالشيء يفضي حتما إلى الهيمنة عليه في هذه الابستيمية المعاصرة. ولان الثورة استهدفت السلطة فلا غرو أن نجدها تفلت من كل سلطة سياسية كانت أو معرفية. لذلك لا نطمح حقيقة تأسيسا معرفيا لمنطق الثورة، إنما من المفترض أن تتعلم الإنسانية من ظاهرة تعميم الغضب وإغراق الواقع ثورة على نواميسه التقليدية. ومثلما تتكشف لنا أحيانا ظواهر كونية على أنّها خوارق لا تتكرر إلاّ مرة أخرى فنستغل ظهورها لنتعلم منها، كذا أمر الثورة. يجب أن تجلس نخبنا وتمرغ انفها في التراب أمام هذه الثورات المتفجرة في أنحاء المنطقة العربية وتصبر على التعلم منها صبرها على بلوغ الحكمة. وانه لباعث على العجب حقا أن نقرأ كتابات غير ثورية في مثل هذه الثورات المعاصرة، نصوص تسحب الماضي على الحاضر في تغاض بغيض عن حدة الانكسار المفترض في واقع التحولات الثوريّة. نشهد ذلك في استمراء الحديث عن الحرّيات والدّيمقراطية في سياقاتها المشهديّة الليبرالية مثلا، ألم يستحضر هؤلاء ما يفترضه السياق الليبرالي من نهاية لتاريخ الثورات؟ إنّني حقا لأعجب كيف يمكن لثورة تستبطن ضرورة معاني التغيير الجذري العنيف والفجائي وبالطفرة أن تتماهى مع مطالب النظرية الليبرالية القائمة على مفهوم الاتجاه الأفقي للتاريخ، اللهم إلا إذا كانت من قبيل العقاقير الصيدلية المحافظة على الوزن، ثورة لايت.
لذلك أعتقد أن مسؤولية الوفاء لهذه الثورات تفترض الاشتغال على ثلاثة مستويات من المراجعات: أوّلا: مراجعات ابستمولوجية للبناء المعرفي الإنشائي الوضعي الذي هيمن على العلوم الإنسانية وقطعها عن مواردها المجتمعية والقيمية والتاريخية بما أدى إلى حالة الإبهام التي تخترق الوعي العربي في مواجهة هذه الثورات.
ثانيّا: مراجعات في الفكر السياسي حول الحكم الرشيد، والوحدة الثقافيّة والتنوّع السياسي، والعمق المجتمعي للدولة، والحاجة للمجتمع الأهلي في سياق نمط حياتي متحرّر من شكلانيّة التنظيمات القانونية العصريّة، والتعاطي مع روح القوانين وأهمية مراعاة ذلك في التشريع والتنزيل وغيرها من قضايا الفكر السياسي.
ثالثا: مراجعات تأسيسية وواقعيّة تخص نسق الفعل المجتمعي وقدرة الحياة الحزبية على التعبير عن الحالة العربية الراهنة، والنخب التقليدية في علاقتها بمجتمعاتها، وبروز نخب جديدة وتموقعها ودورها، والتعبير العفوي داخل المجتمع وارتباطه بالمشروعية الواقعيّة.
في ما يبدو لي أن هذه المراجعات ضرورية أما لمحاولة فهم هذه الثورات التي تجتاح الواقع العربي الجامد منذ نصف قرن، وأما تعبيرا عن ايجابية العقل العربي واستعداده للوقوف والتتلمذ عليها عله يستطيع أن يشق طريقه من جديد في دورة الإنتاج الحضاري الإنساني. أذكر أنّ فيلسوفا عظيما قال ذات يوم أنّ الفكر كبومة مينيرفا لا يطلع إلا آخر النهار عندما يكون الواقع قد شارف على إتمام دورته.
في النهاية ما يبعث على القلق أن ثورة الخائفين قد أنجزت بين حالتين متقاربتين لا يوحي التنقل بينهما بالطفرة التي من المفترض أنها خاصية الثورة، هما الخوف الذي تفجر في وجه الاستبداد والحيرة التي خلفها هذا الخوف.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire