Articles les plus consultés

vendredi 24 octobre 2014

المصلحون التّونسيون و تأسيس الجمهورية الثّانيّة


المصلحون التونسيون  و تأسيس الجمهوريّة الثّانية   
          خيرالدّين  باشا التونسي : نموذجا  جزء 1
                               مصطفى عبدالله الونيسي / باريس
                     

تستعدّ بلادنا  هذه الأيّام خوض استحقاق وطني هام و مفصلي في تاريخ بلادنا المعاصر. فالتونسيون مقبلون يوم 26  أكتوبر 2014 على انتخابات تشريعية  للفوز بأغلبية برلمانية مريحة  من أجل قيادة البلاد  ، كما أنّ لهم موعدا ثان لانتخاب رئيس للبلاد يوم 23 نوفمبر2014
و ما يرومه التونسيون من هذه الانتخابات هو الخروج من هذا الوضع المؤقت الذّي دام قرابة أربع سنوات إلاّ قليلا بعد ثورة 17ديسمبر2010  و 14 جانفي 2011  تبعا للاختلاف في التقديرات بدستور للبلاد ، و الدّخول الفعلي في بناء دولة القانون و المؤسسات و الدّيمقراطية ، أي بعبارة أخرى  تأسيس  الجمهوريّة الثانية التّي طالما حلُم بها التّونسيون.
و في مثل هذه المناسبات المفصلية في تاريخنا المعاصر كم نحن في حاجة و خاصة النّخبة  الوطنية من رجال الفكر و السياسة و الثّقافة  أن نلتفت إلى تجاربنا الإصلاحية لندرسها و ننهل منها و نستلهمها و نبني عليها و نُراكم بعد تحيين الإيجابي منها بما يتماشى مع واقعنا الاجتماعي و السياسي. فالتأسيس يتطلب و لا شك الاجتهاد و بذل الوُسع انطلاقا من واقعنا المعاصر ، إلاّ أن الاطلاع  على تجارب من سبقنا  من المصلحين الكبار يضفي على التجربة التونسية فرادة و  انسجاما مع التاريخ و الجغرافيا  و غزارة للمضمون و جمالا على  مستوى الشكل. فالوليد التونسي لثورة الرّبيع العربي نريده أن يكون سليم العقل ، سويّ البنيّة  جديرا بالاحترام حتى يستطيع أن يتصدّى بجدارة لقوى الرّدة الّذين يريدون أن يلتفوا على ثورات ربيعنا العربي بالتّشكيك فيها و الانقلاب عليها .
و عندما نذكر الإصلاح بخير في بلادنا تونس أوّل ما نتذكر هو المصلح الكبير
    هو خـــيرالدّيـــن بـــا شــا  التّونسي ، فمن هو خيرالدين  ؟

باريس 18 أكتوبر 2014
مصطفى عبدالله الونيسي
المصلحون التونسيون و تأسيس الجمهورية الثّانيّة
خيرالدّين باشا التّونسي : نموذجا  ( ج 2  )  

خيرالدّين باشا التّونسي وزير و مؤرخ و أحد رجالات الإصلاح الإسلامي إبّان العهد العثماني . ولد سنة 1820 في قرية بجبال القوقاز، و كان عبدا مملوكا منحدر من قبيلة ( أباظة ) ببلاد الشّركس بالجنوب الغربي من جبال القوقاز . توفي والده في إحدى الوقائع الحربيّة العثمانيّة ضدّ روسيا ، فأسر و هو طفل ثمّ بيع في سوق العبيد باسطنبول ، فتربّى في بيت نقيب الأشراف تحسين بك ، و انتهى به المطاف إلى قصر باي تونس عندما اشتراه رجال الباي من سيّده ، و جيء به إلى تونس و هو في سنّ السّابعة عشر ، و أصبح مملوكا لأحمد باشا باي الّذي قرّبه و حرص على تربيته و تعليمه.  امتاز خيرالدّين بذكاء شديد ، فأقبل على تحصيل الفنون العسكريّة و السّياسيّة و التّاريخيّة . عُيّن مُشرفا على مكتب العلوم الحربيّة ، فاتضحت خصاله الحربيّة جليّة و فاز بالمراتب العسكريّة عن جدارة فولاّه  أحمد باي أميرا للواء الخيّالة سنة 1849.
و بأمر من أحمد باشا باي سافر خيرالدّين إلى فرنسا سنة  1857 لبيع مجوهرات لصرف ثمنها لإعانة تركيا في حربها ضدّ روسيا القيصريّة . 
و في سنة 1857 عُيِّن وزيرا للحربيّة ، فقام بالعديد من الاصلاحات  و من أهمّها تحسين ميناء حلق الواد و تنظيم إدارة  الوزارة و ضبط الاتفاقيات و القوانين مع الأجانب لحفظ البلاد من التّدخل الأجنبي .
كما قام بعدة إصلاحات دستوريّة تجسدّت في قوانين سياسية و اجتماعية  و إداريّة و ماليّة . كما أنّه قاوم الاستبداد و عمل على إقامة العدل ، و ساهم في وضع قوانين مجلس الشّورى الّذي أصبح فيما بعد رئيسا له سنة 1861.
الاستقالة من منصبه:
و بسبب توسع الفساد السياسي في البلاد نتيجة سوء التصرف في المال العام  قدّم خيرالدّين استقالته من كلّ وظائفه في الدّولة سنة 1862.  فقد نشب خلاف بينه و بين الوزير مصطفى الخزندار المعروف بفساده المالي ، و ذلك على الرّغم من صلة النّسب الّتي تجمع بينهما ، فقد كان خيرالدّين زوجا لابنة الوزير الملقب بالوزير الأكبر. و كان سبب الخلاف بينهما رفض خيرالدّين  لسياسات الوزير  الماليّة حول استدانة  البلاد من المُرابين الأروبيين ، فآثر الاستقالة يوم 23 نوفمبر 1862م . و استغرقت فترة انقطاعه سبع سنوات من سنة 1862م إلى سنة 1869م . فكانت فترة انعزل فيها في بستانه يتأمل و يكتب ...و قد ترك لنا ثروة حصيلة لتأملاته و مراجعاته و أفكاره الاصلاحية  في كتابه الشهير : ( أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ) ، و قد طُبِع بالمطبعة الرّسمية للبلاد التّونسية سنة 1868م، و هو ما سنعود إليه بالدّراسة إن شاء الله .
العودة إلى الوزارة من جديد :
انتهجت تونس في عهد الوزير الأكبر مصطفى الخزندار سياسة مالية  متخبطة  فتدهورت على إثرها  الميزانية المالية و آلت إلى الإفلاس. و فرض الدّائنون الأوروبيون سنة 1869م لجنة مراقبة مالية ، و اختير خيرالدّين رئيسا لها ، ثمّ أسند إليه منصب الوزير المباشر سنة 1871م . و بعد سنتين عُيِّن وزيرا أكبر خلفا لمصطفي خزندار الّذي ثبت اختلاسه و تلاعبه ببعض أموال الدّيون . و دامت فترة وزارته الكبرى نحو أربع سنوات ، نهض خلالها بالبلاد و بعث فيها روحا جديدة من الأمل و أصلح كثيرا من شؤونها.
و الملاحظ أنّ خيرالدّين لم يمكث طويلا في منصبه ، على الرّغم من ظهور ثمرات إصلاحه، فأعرض عنه الباي بتأثير من بعض المقربين له، فاضطُر هذا الأخير إلى تقديم استقالته من إدارة الشّأن العام ، ولكن السّلطان العثماني عبدالحميد الثّاني طلبه للاستفادة من جهوده الإصلاحيّة . فسافر هذا الأخير إلى استانبول في سبتمبر 1878، و أُسندت إليه رئاسة لجنة مهمتها مراجعة الوضع المالي للدّولة العثمانيّة ، ثمّ ألح عليه السّلطان أن يتولى وزارة العدل فرفض ، ثمّ لم يلبث أن عيّنه السلطان يوم 4 ديسمبر 1878 صدرا أعظم ، في وقت تكالب فيه الأعداء على الدّولة ، فعمل خير الدّين في ظروف بالغة الحرج، ولكنه نجح في إجلاء الجيوش الرّوسية و خلع الخديوي اسماعيل من ولاية مصر ، الذّي كان ينتهج سياسة تساهم في إضعاف ارتباط مصر بالدّولة العثمانيّة، و جعلها لقمة سائغة لمطامع الدّول الأوروبية الاستعماريّة . فخيرالدّين كان يؤمن بأولوية و ضرورة توطيد الرّوابط و الصلات المتينة بين الدّولة العثمانية و سائر الولايات التابعة لها . و لمّا أخفق خيرالدين في إقناع السّلطان باعتماد هذا التّمشي الاصلاحي قدّم استقالته ، و بقي عضوا في مجلس الأعيان حتّى وافته منيته يوم 30 جانفي 1890م  و في مارس 1968 أوتي برفات خيرالدّين إلى تونس و دفن على مشارف مقبرة الجلاز رحمه الله رحمة واسعة .
و العبرة الّتي يمكن أن نخرج بها من سيرة هذا المصلح الفذ هو الثّقة في النّفس و الإيمان بالمستقبل. فخيرالدّين عاش يتيما ، و أسر و بيع في سوق العبيد كمملوك لسيّده ، و لكن كلّ هذه الظروف القاسية لم تمنعه من التّألق ، فهو المصلح الكبير الّذي قلّ ما عرف له العالم العربي و الاسلامي له مثيلا ، و هو أيضا  رجل الدّولة بامتياز .  فخيرالدّين  هو مثال لأبناء الفقراء و الكادحين في المناطق الدّاخلية ، فإذا استطاع خيرالدّين أن يصل إلى ما وصل إليه  رغم قساوة الظروف التي مرّ بها، فكل تونسي و تونسية مهما كانت الظروف الاجتماعية صعبة قادر على أن يخدم بلاده في أعلى المستويات بشرط أن تضمن الدّولة لكلّ المواطنين نفس الحظوظ و الفرص في التعلم و التشغيل .
 باريس 24 أكتوبر   2014

 مصطفى عبدالله الونيسي