المصلحون التونسيون و تأسيس الجمهوريّة الثّانية
مصطفى عبدالله
الونيسي / باريس
تستعدّ بلادنا هذه الأيّام خوض استحقاق وطني هام و مفصلي في
تاريخ بلادنا المعاصر. فالتونسيون مقبلون يوم 26
أكتوبر 2014 على انتخابات تشريعية
للفوز بأغلبية برلمانية مريحة من
أجل قيادة البلاد ، كما أنّ لهم موعدا ثان
لانتخاب رئيس للبلاد يوم 23 نوفمبر2014
و ما يرومه التونسيون من هذه الانتخابات هو
الخروج من هذا الوضع المؤقت الذّي دام قرابة أربع سنوات إلاّ قليلا بعد ثورة
17ديسمبر2010 و 14 جانفي 2011 تبعا للاختلاف في التقديرات بدستور للبلاد ، و
الدّخول الفعلي في بناء دولة القانون و المؤسسات و الدّيمقراطية ، أي بعبارة أخرى تأسيس
الجمهوريّة الثانية التّي طالما حلُم بها التّونسيون.
و في مثل هذه المناسبات المفصلية في تاريخنا
المعاصر كم نحن في حاجة و خاصة النّخبة
الوطنية من رجال الفكر و السياسة و الثّقافة أن نلتفت إلى تجاربنا الإصلاحية لندرسها و ننهل
منها و نستلهمها و نبني عليها و نُراكم بعد تحيين الإيجابي منها بما يتماشى مع
واقعنا الاجتماعي و السياسي. فالتأسيس يتطلب و لا شك الاجتهاد و بذل الوُسع
انطلاقا من واقعنا المعاصر ، إلاّ أن الاطلاع
على تجارب من سبقنا من المصلحين
الكبار يضفي على التجربة التونسية فرادة و
انسجاما مع التاريخ و الجغرافيا و
غزارة للمضمون و جمالا على مستوى الشكل.
فالوليد التونسي لثورة الرّبيع العربي نريده أن يكون سليم العقل ، سويّ
البنيّة جديرا بالاحترام حتى يستطيع أن
يتصدّى بجدارة لقوى الرّدة الّذين يريدون أن يلتفوا على ثورات ربيعنا العربي
بالتّشكيك فيها و الانقلاب عليها .
و عندما نذكر الإصلاح بخير في بلادنا تونس
أوّل ما نتذكر هو المصلح الكبير
هو
خـــيرالدّيـــن بـــا شــا التّونسي ،
فمن هو خيرالدين ؟
مصطفى عبدالله الونيسي
المصلحون التونسيون و تأسيس الجمهورية
الثّانيّة
خيرالدّين باشا التّونسي : نموذجا ( ج 2
) 
خيرالدّين باشا التّونسي وزير و مؤرخ و أحد
رجالات الإصلاح الإسلامي إبّان العهد العثماني . ولد سنة 1820 في قرية بجبال
القوقاز، و كان عبدا مملوكا منحدر من قبيلة ( أباظة ) ببلاد الشّركس بالجنوب
الغربي من جبال القوقاز . توفي والده في إحدى الوقائع الحربيّة العثمانيّة ضدّ
روسيا ، فأسر و هو طفل ثمّ بيع في سوق العبيد باسطنبول ، فتربّى في بيت نقيب
الأشراف تحسين بك ، و انتهى به المطاف إلى قصر باي تونس عندما اشتراه رجال الباي
من سيّده ، و جيء به إلى تونس و هو في سنّ السّابعة عشر ، و أصبح مملوكا لأحمد
باشا باي الّذي قرّبه و حرص على تربيته و تعليمه.
امتاز خيرالدّين بذكاء شديد ، فأقبل على تحصيل الفنون العسكريّة و
السّياسيّة و التّاريخيّة . عُيّن مُشرفا على مكتب العلوم الحربيّة ، فاتضحت خصاله
الحربيّة جليّة و فاز بالمراتب العسكريّة عن جدارة فولاّه أحمد باي أميرا للواء الخيّالة سنة 1849.
و بأمر من أحمد باشا باي سافر خيرالدّين إلى
فرنسا سنة 1857 لبيع مجوهرات لصرف ثمنها
لإعانة تركيا في حربها ضدّ روسيا القيصريّة .
و في سنة 1857 عُيِّن وزيرا للحربيّة ، فقام
بالعديد من الاصلاحات و من أهمّها تحسين
ميناء حلق الواد و تنظيم إدارة الوزارة و
ضبط الاتفاقيات و القوانين مع الأجانب لحفظ البلاد من التّدخل الأجنبي .
كما قام بعدة إصلاحات دستوريّة تجسدّت في
قوانين سياسية و اجتماعية و إداريّة و
ماليّة . كما أنّه قاوم الاستبداد و عمل على إقامة العدل ، و ساهم في وضع قوانين
مجلس الشّورى الّذي أصبح فيما بعد رئيسا له سنة 1861.
الاستقالة من منصبه:
و بسبب توسع الفساد السياسي في البلاد نتيجة
سوء التصرف في المال العام قدّم خيرالدّين
استقالته من كلّ وظائفه في الدّولة سنة 1862. فقد نشب خلاف بينه و بين الوزير مصطفى
الخزندار المعروف بفساده المالي ، و ذلك على الرّغم من صلة النّسب الّتي تجمع
بينهما ، فقد كان خيرالدّين زوجا لابنة الوزير الملقب بالوزير الأكبر. و كان سبب
الخلاف بينهما رفض خيرالدّين لسياسات
الوزير الماليّة حول استدانة البلاد من المُرابين الأروبيين ، فآثر
الاستقالة يوم 23 نوفمبر 1862م . و استغرقت فترة انقطاعه سبع سنوات من سنة 1862م
إلى سنة 1869م . فكانت فترة انعزل فيها في بستانه يتأمل و يكتب ...و قد ترك لنا
ثروة حصيلة لتأملاته و مراجعاته و أفكاره الاصلاحية في كتابه الشهير : ( أقوم المسالك في معرفة
أحوال الممالك ) ، و قد طُبِع بالمطبعة الرّسمية للبلاد التّونسية سنة 1868م،
و هو ما سنعود إليه بالدّراسة إن شاء الله .
العودة إلى الوزارة من جديد :
انتهجت تونس في عهد الوزير الأكبر مصطفى
الخزندار سياسة مالية متخبطة فتدهورت على إثرها الميزانية المالية و آلت إلى الإفلاس. و فرض
الدّائنون الأوروبيون سنة 1869م لجنة مراقبة مالية ، و اختير خيرالدّين رئيسا
لها ، ثمّ أسند إليه منصب الوزير المباشر سنة 1871م . و بعد سنتين عُيِّن وزيرا
أكبر خلفا لمصطفي خزندار الّذي ثبت اختلاسه و تلاعبه ببعض أموال الدّيون .
و دامت فترة وزارته الكبرى نحو أربع سنوات ، نهض خلالها بالبلاد و بعث فيها
روحا جديدة من الأمل و أصلح كثيرا من شؤونها.
و الملاحظ أنّ خيرالدّين لم يمكث طويلا في
منصبه ، على الرّغم من ظهور ثمرات إصلاحه، فأعرض عنه الباي بتأثير من بعض
المقربين له، فاضطُر هذا الأخير إلى تقديم استقالته من إدارة الشّأن العام ، ولكن
السّلطان العثماني عبدالحميد الثّاني طلبه للاستفادة من جهوده الإصلاحيّة .
فسافر هذا الأخير إلى استانبول في سبتمبر 1878، و أُسندت إليه رئاسة لجنة مهمتها مراجعة
الوضع المالي للدّولة العثمانيّة ، ثمّ ألح عليه السّلطان أن يتولى وزارة العدل
فرفض ، ثمّ لم يلبث أن عيّنه السلطان يوم 4 ديسمبر 1878 صدرا أعظم ، في وقت
تكالب فيه الأعداء على الدّولة ، فعمل خير الدّين في ظروف بالغة الحرج، ولكنه نجح
في إجلاء الجيوش الرّوسية و خلع الخديوي اسماعيل من ولاية مصر ، الذّي كان ينتهج
سياسة تساهم في إضعاف ارتباط مصر بالدّولة العثمانيّة، و جعلها لقمة سائغة لمطامع
الدّول الأوروبية الاستعماريّة . فخيرالدّين كان يؤمن بأولوية و ضرورة توطيد
الرّوابط و الصلات المتينة بين الدّولة العثمانية و سائر الولايات التابعة لها . و
لمّا أخفق خيرالدين في إقناع السّلطان باعتماد هذا التّمشي الاصلاحي قدّم استقالته
، و بقي عضوا في مجلس الأعيان حتّى وافته منيته يوم 30 جانفي 1890م و في مارس 1968 أوتي برفات خيرالدّين إلى تونس
و دفن على مشارف مقبرة الجلاز رحمه الله رحمة واسعة .
و العبرة الّتي يمكن أن نخرج بها من سيرة هذا
المصلح الفذ هو الثّقة في النّفس و الإيمان بالمستقبل. فخيرالدّين عاش يتيما ، و
أسر و بيع في سوق العبيد كمملوك لسيّده ، و لكن كلّ هذه الظروف القاسية لم تمنعه
من التّألق ، فهو المصلح الكبير الّذي قلّ ما عرف له العالم العربي و الاسلامي له
مثيلا ، و هو أيضا رجل الدّولة بامتياز
. فخيرالدّين هو مثال لأبناء الفقراء و الكادحين في المناطق
الدّاخلية ، فإذا استطاع خيرالدّين أن يصل إلى ما وصل إليه رغم قساوة الظروف التي مرّ بها، فكل تونسي و
تونسية مهما كانت الظروف الاجتماعية صعبة قادر على أن يخدم بلاده في أعلى
المستويات بشرط أن تضمن الدّولة لكلّ المواطنين نفس الحظوظ و الفرص في التعلم و
التشغيل .
باريس
24 أكتوبر 2014
مصطفى عبدالله الونيسي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire