صور لمكة المكرمّة مهبط الوحي و منطلق الرّسالة النبويّة

نظام الحكم في الاسلام : نشأة وصيرورة (ج2) / الأستاذ مصطفى لونيسي
بسم الله الرحمان الرحيم
البحث الأول :نظام الحكم في الإسلام :نشأة و صيرورة
مصطفى عبدالله الونيسي/باريس/فرنسا
الفصل الأول :محمد بن عبدالله(ص)المؤسس الأول للدولة الإسلامية :
الحلقة الخامسة : تعدد الصور و الأشكال لمحاربة الدعوة الجديدة :
3)الحرب النفسية والتهديد بالقتل : لمّا أيقنت قريش أنّ محمدا صلى الله عليه و سلم لا يمكن أن يحيد عن الدعوة التي جاء بها، و أن مغريات الدنيا كلها مجتمعة لا يمكن أن تؤثر فيه أو تفل في عضده ، فهو رسول و نبي مرسل اصطفاه الله و اختاره لتبليغ ما نُزّل إليه من ربه ، كلفه ذلك ما كلفه ، عمدت (أي قريش) إلى أساليب أخرى في محاربته أكثر شراسة و عنفا. واعتمدوا من هذه الأساليب الحرب النفسية و تكثيف الدعاية المضادة للدعوة الجديدة و التهديد بالتصفية الجسدية لشخص الرسول (ص) و أصحابه الكرام رضي الله عنهم جميعا . لقد قالوا أنّه ساحر،و شاعر، و كاذب، و مريض ،و مجنون ......إلى غير ذلك من الصفات التي تنفي عن الرسول (ص) استواء الشخصية و توازنها . كما أنّ قريشا اعتمدت ،أيضا ، في محاربة الدعوة الجديدة أساليب الإحراج و طرح الأسئلة التعجيزية للنيل من معنوياته (ص)، و يعكس لنا القرآن هذا الأسلوب في سورة الإسراء : ( و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنّة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ،أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا ،أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ،قل سبحان ربي هل كنت إلاّ بشرا رسولا.). و بتأيد من الله سبحانه لم يكن النبي ليستجيب لاستفزازاتهم،و إنّما كان يقول لهم (ص) : (ما بهذا بعثت إليكم ، إنّما جئتكم من الله بما بعثني ، و قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ،فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة ، و إن تردوه عليّ ، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني و بينكم ). و يأتي القرآن الكريم ليؤكد هذا الخيار الصائب الذي ترعاه العناية الربانية في مواطن متكررة ومن ذلك أنّ أبا جهل بن هشام جابه الرسول صلى الله عليه و سلم وواجهه قائلا : (والله يا محمد لتتركن سبّ آلهتنا أو لنسُبّن إلهك الذي تعبد)، فتجيء تعليمات القرآن مُوجهة الفعل النبوي في الإتجاه الصحيح و القويم(ولا تسُبُّوا الذّين يدعون من دون الله فيسُبُّوا الله عدوا من غير علم ) الأنعام آية108
4) الإيذاء الشامل :
ومن الحرب النفسية و التهديد بالقتل، مرت قريش إلى مرحلة الإيذاء المباشر و الفعلي ، و من ذلك قول أبي جهل لزعماء قريش :( يا معشر قريش إنّ محمدا قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا ، و شتم آبائنا،و تسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، و إني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر ما أطيق حمله،فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو مناف ما بدا لهم !!
قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد !!
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله ينتظره ، و غدا رسول الله (ص)كما كان يغدو ، و كان بمكة ،و كانت القبلة إلى بيت المقدس بالشام،فكان إذا صلى ، صلى بين الركنين البرّاني و الأسود،و جعل الكعبة بينه و بين الشام....، فقام يصلي ، و قد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول الله (ص) احتمل أبو جهل الحجر ،ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا ،قد يبست يداه على حجره ....و قامت إليه رجال قريش فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ؟قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة ، فلمّا دنوت منه عرض لي فحل من الإبل لا و الله ما رأيت مثل هامته،....و لا أنيابه ....، فهمّ بي أن يأكلني !!
قال بن اسحاق : فذُكر لي أن رسول الله قال : ( ذلك جبريل عليه السلام ، لو دنا لأخذه )(1) و من ذلك أنّ زعماء الكفر من قريش ،كانوا يجتمعون قريبا من الكعبة حتى إذا طاف بها الرسول غمزوه بكثير من القول البذيء و الباطل ،و كان يرد عليهم : ( أتسمعون يا معشر قريش ؟ أ مّا و الذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح(أي بالهلاك إن لم تؤمنوا ) ) . و كانوا كثيرا ما يأخذون بمجامع ثيابه قائلين له أنت الذّي تقول كذا و كذا في عيب آلهتنا و آبائنا ، و كان يجيبهم دائما بكل صراحة وبلا خوف أو لف و دوران : ( نعم أنا الذّي يقول ذلك ). ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو
بن العاص أنه قال : (بينما النبي (ص) يصلي في حجر إسماعيل إذ أقبل عقبه أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبوبكر حتى أخذ بمنكبه ، و دفعه عن النبي (ص) و قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله )(2). و منه ما رواه الطبري و ابن اسحاق أنّ بعضهم عمد إلى قبضة من التراب فنثرها على رأسه و هو يسير في بعض سكك (طرق) مكة ، و عاد إلى بيته و التراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هي تبكي و رسول الله يقول لها :يا بنية لا تبكي ، فإنّ الله مانع أباك )(3) . و أمّا أصحابه (ص) فقد تجرعوا من العذاب ألوانا ، حتى استشهد منهم من استشهد، و عمي منهم من عمي ....، و لم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا ، و نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما رواه الإمام البخاري عن خبّاب بن الأرتّ أنّه قال : ( أتيت النبي (ص) و هو متوسد بردة و هو في ظل الكعبة ، و قد لقينا من المشركين شدة ، فقلت يا رسول الله :ألا تدعو لنا ؟فقعد وهو محمر الوجه ، فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه. و ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله )(4) و في رواية أخرى : ( لا يخاف إلاّ الله و الذئب على غنمه و لكنكم تستعجلون )
5) الحصار الإقتصادي و التهميش الإجتماعي :
و رد بأسانيد مختلفة ، أنّ كفار قريش أجمعوا أمرهم على قتل الرسول (ص) هذه المرة ، و كلموا في ذلك بني هاشم و بني عبدالمطلب،إلاّ أنّ هؤلاء رفضوا رفضا مطلقا تسليمه (ص) إليهم، و لو لم يكن هذا الأخير على دينهم . يذكر البلاذري
أنّ قريشا توعدت بقتل الرسول (ص) ، سرّا و علانية، و قالت :لا صلح بيننا و بين بني هاشم بني المطلب و لا رحم ولا حرمة إلاّ على قتل هذا الرجل الكذاب السفيه. و عمد أبو طالب إلى الشعب بابن أخيه و بني هاشم و بني المطلب ،و كان أمرهم واحدا، و قال :نموت من عند آخرنا قبل أن يوصل إلى رسول الله (ص). و دخل في الشعب من كان من هؤلاء مؤمنا أو كافرا (5)، رفضا للظلم ،أو حمية ، أو إيمانا .
وعرفت قريش ،أنّه لا قبل لها اليوم بقتل النبي محمد و قد وقف إلى جانبه بنوهاشم ،مؤمنهم و كافرهم، و بنو عبدامطلب، كافرهم ومؤمنهم،كالبنيان المرصوص،فلجأت إلى ظلم آخر دون القتل و لكنه قد يكون أشد مرارة و أخطر سلاحا في مستوى النتائج و النهايات المنتظرة. جاء في كتاب (الرحيق المختوم) : (وقعت أربع حوادث ضخمة ــ بالنسبة للمشركين ــ خلال أربعة أسابيع ، أو في أقل مدة ، منها :أسلم حمزة ،ثم أسلم عمر ، ثم رفض محمد (ص) مساومتهم، ثم تواثق بنو عبدالمطلب ، و بنو هاشم كلهم مسلمهم و كافرهم على حماية محمد (ص) و منعه ، و حار المشركون ،و حُق لهم أن يحيروا ، إذ عرفوا و تيقنوا ، أنهم لو قاموا بقتل محمد (ص) يسيل وادي مكة دونه بدمائهم، بل ربما يفضي إلى استئصالهم....عرفوا ذلك، فانحرفوا إلى ظلم آخر دون القتل،لكن أشد مضاضة عما فعلوا به)(6). و لمّا عجزت قريش عن قتل النبي صلى الله عليه و سلم ، أجمع زعماءها على منابذة النبي و مقاطعته و مقاطعة من معه من المسلمين ومن يحميه من بني هاشم و بني عبدالمطلب ، وكتبوا في ذلك صحيفة تعاهدوا على تنفيذ بنودها بكل صرامة وعلقوها في جوف الكعبة ،ليضفوا عليها نوعا من القداسة ، و قد جاء فيها :( باسمك اللهم . على بني هاشم و بني المطلب على ألاّ ينكحوا إليهم و لا ينكحوهم ،ولا يبيعوهم شيئا و لا يبتاعوا منهم، و لا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلوه)(7). استمرت هذه المقاطعة الظالمة سنتين و عدة أشهر ،و قيل سنتين فقط . و تفيد رواية موسى بن عقبة أنّ ذلك كان قبل أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، وإنّما أمرهم بها أثناء الحصار . أمّا رواية ابن اسحاق فتدل على أن كتابة الصحيفة كانت بعد هجرة أصحابه إلى الحبشة و بعد إسلام عمر. و كان لا يصل إلى المسلمين و من معهم ، أثناء هذه المقاطعة ،شيء إلاّ سرّا ممن أراد مساعدتهم من قريش بدافع من عصبية أو نخوة أو عطف. و لاقى المسلمون و نبيهم و حلفاءهم عذابا شديدا و آلاما قاسية من الجوع والخوف و العزلة و الحرب النفسية(8) . جاء في الصحيح، أنهم جُهدوا جهدا شديدا في هذه الأعوام حتى أنهم كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر . و ذكر السهيلي أنهم كانوا إذا قدمت العير مكة ، يأتي أحد أصحاب محمد إلى السوق ليشتري شيئا من الطعام لأهله ، فيقوم أبولهب مناديا : يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم ، فيزيدون عليهم في السلعة أضعافا، حتى يرجع إلى أطفاله و هم يتضاغون من الجوع و ليس في يده شيئ يطفيء جوعتهم. فلمّا كان على رأس ثلاث سنوات أو سنتين ،بحسب الرواية المعتمدة،من بدء الحصار ، تلاوم قوم من بني قصي ، فأجمعوا أمرهم على نقض الصحيفة ،وكان الله قد أرسل على صحيفتهم هذه الأرَضة، وهم لا يعلمون ،فأتت على مُعظم ما فيها من ميثاق و عهد ، و لم يسلم من ذلك إلاّ الكلمات التي فيها ذكر الله عز و جل. و قد أخبر رسول الله عمه بذلك، و هذا من آيات نبوته، فقال له عمه أبو طالب : ( أربك أخبرك بذلك ؟قال :نعم ، فمضى في عصابة من قومه إلى قريش ، فطلب منهم أن يأتوه بالصحيفة مُوهما إياهم أنه قد ينزل عند شروطهم ، فجاؤوه بها و هي مطوية ، فقال : لهم إنّ ابن أخي قد أخبرني ، و لم يكذبني قط، أنّ الله تعالى قد سلط على صحيفتكم الأرضَة فأتت على كل ما كان فيها من جور و قطيعة رحم ،فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا و ارجعوا عن سوء رأيكم ، فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا ، و إن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا ففعلتم به ما تشاؤون. فقالوا : قد رضينا بما تقول. ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم. و لكنّ القوم أصروا على الكفر و استكبروا استكبار كما هو شأن الطواغيت دائما و قالوا :هذا سحر ابن أخيك !)…. و ما زادهم ذلك إلاّ بغيا و نفورا . ولكنّ الله عز و جل ، لمّا أذن بالفرج ، قيّض رجالا من ذوي المروءات و الحسب من قريش تفجرت الرحمة من قلوبهم كما تتفجر الأنهار من بعض الأحجار الصمّاء ، فتعاهدوا على نقض هذه الصحيفة الظالمة و هذا الحصار الآثم. و هؤلاء الرجال هم خمسة من رؤساء المشركين من قريش ،كما تذكر كتب السيرة، : هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية ،و المطعم بن عدي،و أبو البختري بن هشام، و زمعة بن الأسود. وكان أول من سعى إلى نقضها بصريح الدعوة هو زهير بن أمية حينما أقبل على النّاس عند الكعبة و قال :( يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ن و نلبس الثياب و بنو هاشم و المطلب هلكى لا يُباعون و لا يُبتاع منهم؟....و الله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة). و قال بقية الخمسة نحوا من هذا الكلام،ثم قام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فمزقها ، ثم انطلق هؤلاء الخمسة ،ومعهم جماعة ،إلى بني هاشم و بني المطلب و من معهم من المسلمين فأمروهم بالخروج من الشعب إلى مساكنهم. و هكذا تشاء إرادة الله تعالى أن تكون هذه المقاطعة الجائرة سببا لتعاطف النّاس مع أصحاب هذه الدعوة الجديدة ، و كان ذلك التحدي، من طرف القلة المؤمنة الصابرة المظلومة للكثرة من أهل الطغيان الذين يملكون الجاه والسلطان والثروات الكثيرة ،سببا آخر في دخول أُناسيَّ كثيرين في الإسلام من مكة و خارجها و حولها ، إذ صار خبر المقاطعة الظالمة حديث الركبان ،وكان ذلك الإجراء القُرشي ،العُدواني و الجائر، خير دعوة و دعاية و إعلان للدعوة و لحاملي لواءها. و حماية للدعوة الصاعدة و صيانة لها من ناحية ، واستثمارا لتضاعف عدد المسلمين و توسع دائرتهم، ماذا عسى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يفعل لتحقيق كل ذلك؟
و كيف سيدير معركته صلى الله عليه مع المشركين ،الذين لا يريدون إلا القضاء عليه و على دعوته بكل الوسائل و في أسرع وقت ممكن، في المراحل القادمة ؟
مصطفى عبدالله الونيسي/باريس/فرنسا
ا لمراجع:1)السيرة النبوية لابن هشام1/299 2)رواه البخاري
3)الطبري:2/344، سيرة ابن هشام1/158 4)السيرة النبوية لابن هشام
5)أنساب الأشراف :1/ 230 6)الرحيق المختوم
)محمد حميد الله : الوثائق ص44 8)السيرة لابن هشام/تاريخ الطبري2/136 /البلاذري :أنساب1/344
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire