بسم الله : الجزء الأوّل من مقالاتنا
في هذا الركن أحاول أن أجمع مقالاتي التي
كتبتها سنوات الجمر و تلك التي كتبتها بعد
الثورة و أسأل الله أن أوفق مع الوقت إلى جمعها
لجعلها على ذمّة القرّاء الكرام
روحانيّة الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
أوصيك يا ولديمصطفى عبدالله الونيسي/باريس
يا ولدي: ما أتعس الإنسان و ما أجحده عندما ينسى حقيقته، من أي شيء خلقه و أماته ربّه ُ و أقبره ثم متى شاء بعثه !
يقول الله تعالى : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثمّ رددناه أسفل سافلين إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون ) التين الآيات4/5/6
و يقول سبحانه :( كلآ ّ إنّ الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى ، إنّ إلى ربّك الرُجعى ) العلق الآيات 6/7/8
أوصيك يا ولدي :لا تسعى أن تكون جبّارا لأن الجبروت لن تطيقه و لن تصبر على تبعاته وتكاليفه و ستكون أول من يكتوي بناره إن فعلت عاجلا أو آجلا ، لأنّ الجبار الحقيقي هو الله ، فاستحي منه و لا تنازعه حقه سبحانه كما يفعل الكثير من الجهلة .
يا و لدي لا تنسى فضل من سبقوك و حقهم عليك و ادع لهم بالرحمة و المغفرة و لا تحقرهم مهما اختلفوا معك وأزعجوك و أحرجوك إلاّ إذا ظلموا و اعتدوا وانتهكوا الحرمات ( و الذ ّين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ....)الحشر آية 10
إيّاك يا ولدي أن تُعادي أحدا خالفك الرّأي ، و لا تنصب نفسك وصيّا على النّاس إلاّ بوجه حق ، و لا تؤُم قوما هم لك كارهون.
و لا تصدق أحدا، فردا كان أو جماعة، ادّعى أمرا إلاّ إذا جربته و خبرته و رأيته قد وافقت أقواله أفعاله.
يا ولدي، عليك بالتجارب الإنسانية، انظر فيها مليئا، وادرسها بعمق، وقلّبها على كل الوجوه تظفر فيها بحكم كثيرة و دروس مفيدة، فاعتبر بها و استفد منها و إيّاك
أن تُعيد نفس الأخطاء التي سقط فيها غيرك ما استعطت إلى ذلك سبيلا، تُوفر على نفسك وقتا كثيرا ومالا وفيرا و أملا في النجاح عريضا .
يا و لدي لك أن تعرف أن أباك صبر طويلا ، و تغرب دهرا مديدا ، وعاش الفقر و الحرمان و التهميش حتى مع الأنداد ، و قد لحقك نصيب وافر من ذلك و أنت لا تدري لماذا ، و لكن عزاؤنا جميعا أنّ أباك ما بدل و ما غيّر و لا استغنى على حساب المساكين رغم شدّة البلاء ومرارته .
يا ولدي : من حقك عليّ أن تعرف أن أباك أفنى شبابه و كهولته في خدمة الصحوة الإسلامية ، سائلينه سبحانه حُسن الختام ، فانخرط فيما يُسمى بالجماعة الإسلامية ، ثم الإتجاه الإسلامي و أخيرا في حركة النهضة ، فدفع الثمن باهضا على المستوى الخارجي وحتى الدّاخلي مع إخوانه و رفاق دربه، فعاش بينهم غريبا و هم لا يعلمون،ورغم ذلك بقي و فيا لهم و لحركته و للمشروع الإسلامي عموما ، و لكن اليوم الذي تجرأ فيه والدك على قول ما يراه حقا بعد هذا الصمت الطويل تطاول عليه بعض الصغار مُنصبين أنفسهم أوصياء على المشروع ناسين أو متناسين تضحيات و جهود من سبقهم يحسبون أنفسهم أنهم بذلك ٌ قد أحسنوا صُنعا ، و نحن نبرأ إلى الله من هذا السلوك ، و ليس هذا من أخلاقنا و لا من شيمنا .
يا و لدي : ما عرفت تنظيما آخر ، لا قبل تأسيس الحركة و لا بعدها ، و أنا صنيعة من صناعاتها ، و ما ادعيت يوما من الأيام أنني من المؤسسين أو حتى من الرعيل الأول لهذه الحركة ، كما يدّعي كثير من رفاق الدرب ذلك ،بمناسبة أو غير مناسبة ، و أنا لا أنكر عليهم ذلك بطبيعة الحال ، غير أن لكل واحد منّا طباعه التي شبّ عليها.
يا بُنيّ ، درست أربع سنوات في الكلية الزيتونية للشريعة و أصول الدين ، تخصص فقه و سياسة شرعية ، ثم التحقت بجامعة السربون الشهيرة في ظروف صعبة جدّا و درست سنتين تحصلت على إثرذلك على شهادة التعمق في البحث العلمي D.E.A ، بملاحظة ، و لم أتوقف يوما على القراءة رغم كثرة المشاغل و أنت أول من يشهد لي بأنّني قارىء نهم لا يشبع من القراءة وقد قلت لي ذلك مرارا و مع ذلك لم ادعي يوما أنني شيخ من مشايخ العلم ، لا من الحجم الكبير و لا المتوسط و لا حتى الصغير، أو داعية أو حتى طالب علم و أنت تعرف أنني أكره هذه الألقاب ، في حين أنّك ترى أشخاصا لا حظّ لهم من علم حقيقي يُعتد به و مع ذلك أصمّوا أذاننا بادعاءهم العلم و المعرفة ، فهم شيوخ كبار و دعاة لا يُشق لهم غبار . و هذا كله إن دل على شيء ، ياولدي، فإنما يدل على أن الحياة لا تقبل الفراغ ، فإذا تخلى أهل الإختصاص عن ممارسة اختصاصهم لسبب أو لآخر أخذ مكانهم بعض الهواة المتطفلين ليملؤوا الفراغ و يقوموا ببعض الواجب ، و قد يحسنون للإسلام بعض الشيء أن وفقهم الله ، كما أنهم قد يسيئون إليه من حيث يعلمون أولا يعلمون أحيانا.
يا ولدي : لكي تعرف كيف تتعامل مع النفوس البشرية المتقلبة أحكي لك هذه الحكاية فعساك تستفيد منها عندما تصبح رجلا مسؤولا : لقد انتهزت فرحة العيد لأفاتح أحد إخواني من المسؤولين الحزبيين الكبار عندنا ، وهو من الذين أكن لهم احتراما ،غير أنني أعرف أنه كان غاضبا عليّ بسبب مواقفي و خاصة منها الموقف الأخير المتعلق بقضية العودة إلى البلاد من عدمها و ما ترتب عن ذلك من أفعال و ردود أفعال و مضاعفات ، فحاولت أن ألاطفه و أن ألف حوله ، يمينا و شمالا ، ولاحقته عَلَيَّ أظفر منه ببسمة و لو صفراء في يوم عيد ، و لكن الرّجل تفلت . ولم أستسلم لذلك، بل أصررت على مراودته وقاربت و سددت ثم وثبت عليه وثبة الأخ الحنون على أخيه وأعترف أنني في هذه المرة لم أترك له فرصة للتفلت و عانقته و عايدته وتمنيت له قبول الصيام و القيام و صالح الأعمال،ثم و ضحت له رغبتي في المصارحة و الحديث معه حتى لا يغضب أحدنا على أحد من دون سبب معقول ، و لكن الرجل ، سامحه الله ، أجابني بكل برودة دم و استعلاء بأنه لا يرى ضرورة لذلك . فتأسفت لذلك طبعا، و لكني أشفقت عليه في نفس الوقت لأن صاحبي لم يستطع أن يفرق بين الحركة التي هي مشروعنا المشترك و الذي لا ينبغي لأحد منّا أن يزايد به على الآخر ، و بين العلاقات الشخصية البحتة التي ينبغي علينا أن نصونها و خاصة في مثل هذه الأيام المباركة .
أوصيك يا ولدي كن شجاعا و لا تخش إلاّ الله ، فعش عزيزا او مُت و انت كريم و شهيد ، فقاوم الإستبداد و المستبدين و لو كانوا من أهلك و أقرب النّاس إليك ، لأن الإستبداد كلّ ٌ لا يتجزأ ، فوجهه قبيح و رائحته نتنة و معايشته سبب لغضب الرحمن الواحد الديّان ، سواء مارسه حاكم او محكوم أو رئيس حزب أو شيخ طريقة أو رئيس ناد من النوادي، ...... و سواء مارسه فرد أو جماعة .
يا و لدي : لا تغرنّك المظاهر و لا الشعارات، و لا تحسبن أن كل من قال أنه متدين أو إسلامي هو بالضرورة ملاك و مثال يحتذى، و ليكن مقياسك في معرفة النّاس ، كما قلت لك ، الصدق في القول و العمل ، و الإلتزام بالمبادىء والأخلاق في الواقع اليومي المعاش ، فالدين مقصده الأساسي المعاملات الحسنة و تمام مكارم الأخلاق، فنحن قوم نقول ما نفعل و نفعل ما نقول وإلاّ فما الفرق بيننا والآخرين الذين لا يُعيرون للأخلاق دورا و لا قيمة في حياة النّاس .
يا ولدي : أرجوك أن لا تحقر أنسانا ، مسلما كان أو غير مسلم ، رجلا كان أو امرأة، و اعلم أنّه من تواضع للنّاس أحبّه النّاس ، و من تواضع لله رفعه الله ، و تذكر أن ساعة المرء تأتي بغتة دون سابق إعلام ، فاستعد لذلك و أكثر من ذكر هادم الملذات ، و مفرق الجماعات و ليكن شعارك الذي تلتزم به و تربي عليه أبناءك قول الله تعالى : (يا بني أقم الصلاة و آمر بالمعروف و آنه عن المنكر و اصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور ، و لا تُصعر خدّك للنّاس و لا تمش في الأرض مرحا إنّ الله لا يحب كل مختال فخور . ) لقمان/ 17/18. فالكبر داء عُضال ، وإياك ثم إياك أن تقترب منه أو تحدثك نفسك به ، و النبي صلى الله عليه و سلم قد أرشدنا إلى ذلك و حذرنا منه عندما قال (ص) ( لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) .
يا ولدي أوصيك أن لا تترك الأمور تتفاقم و تتراكم حتى تتعفن ، فيصعب الإصلاح عندئذ و التعافي ، وعليك أن تُعالج الأمور من البداية ، و إذا استطعت أن تستشرف الأحداث و تستبقها في عملية وقائية فآفعل، و عليك أن تراجع نفسك إن استطعت بالليل و النهار و تستغفر الله لذنبك في اليوم مرات عديدة فذلك أفضل لك و أنجى .
يا ولدي : كن فاعلا و بادر بالأعمال الصالحات و لا تنتظر الآخرين حتى يبادروا ، لأنهم قد لا يبادروا فتضيع على الأمة فُرصا غالية و ثمينة للإصلاح فتندم على ذلك
في وقت لا ينفع فيه الندم .
يا و لدي : تواصل مع النّاس و انفتح عليهم و كن تلقائيا معهم و عاشرهم بالمعروف و عاملهم بالتي هي أحسن .
و أوصيك أيضا أن تدون كل ما تنوي قوله أو القيام به ، فذلك أوضح و أدوم ، و لا تخجل أو تتردد في التعريف بنفسك و ما تنوي القيام به على أوسع نطاق ممكن ، فإنّ التواصل الجميل مع الآخرين و حُسن العرض هو نصف العمل أو أكثر و خاصة في هذا الزمان ، و لا تعتقدنّ أن ذلك من الغرور أو التكبر ما دام العمل خالصا لوجهه الكريم سبحانه .
يا ولدي : أوصيك أن لا تندم على شيء فعلته أبدا ما دمت مخلصا لله و صادقا مع نفسك.
أمّا إذا أردت النجاح في تدبير شؤونك حتى الدنيوية منها ، فعليك بالتوكل على الله ، و لا تفعل إلاّ ما تحبه عبر تخطيط واضح و متدرج،ولا ترهق نفسك بما لا تطيق ، و لك أن تكون طموحا بشرط أن لا تتعسف على الواقع ، فتقرأه و ما يحتوي عليه من موازين قوى قراءة صحيحة فتبني على ضوء ذلك أهدافك ، و عليك بالمداومة و الإستمرار و المراكمة في الإتجاه الذي تريد أن تصل إليه. و عليك بخدمة النّاس و العمل على سعادتهم بكل محبة و إخلاص ، فبقدر ما تخدمهم يخدمونك ، و بقدر ما تسعى في مصلحتهم يسعون في مصلحتك . هذه بعض شروط النجاح ، و لك أن تجرب ذلك فستقف على صدق ما أقول بنفسك.
يا ولدي : تزيّن بالإيمان، فإنه أصل كل سعادة ، وبالحلم ، فإنّه راحة بال ، فلا تحقد على أحد، و بالعلم ، فإنّه فضيلة و نور في الدنيا و الآخرة ، و لتعلم أن فضل العالم على العابد كفضل القمر المنير على سائر الكواكب ، و أنّ الله و ملائكته وأهل السموات و الأرض حتى النّملة في جحرها والحوت في الماء ليُصلون على معلم النّاس الخير. و عليك بالجماعة ، و بقدر ما تكون الجماعة أكثر عدد ، فهي أفضل ، فألزم جماعة المسلمين واصطبر عليها خير لك من الفرقة ، فهي عذاب وذهاب للدِّين و العزّة . و إيّاك أن تُساوم في حريتك مهما كان الثمن ، فحريتك هي رمز كرامتك و إذا انتهكت حريتك انتهكت كرامتك ، و لم تعد شيئا مذكورا.
يا و لدي : هذه بعض الوصايا أنصحك بها، هي من وحي التجربة و المعاناة، قد لا تجدها و لا تقرأها في كتاب أو كراس أو مخطوط فخُذها عنّي ، أمّا أصول الإيمان والثابت من الدّين و المعلوم منه بالضرورة ، فخُذها من القرآن و الصحيح من السنة . عليك بالقرآن ، أيها الولد الحبيب، اتخذه لك رفيقا ومؤنسا و صاحبا و مُرشدا و معلما و مربيا و مرجعا وملاذا و دستورا ودليلا تهتدي به في الظلمات و تسير به بين النّاس ، تفز بالسعادة في الدنيا و لأجر الآخرة خير و أبقى .
إليك يا ولدي هذه النصائح من أب محب ، و قد لا تفهم الكثير منها لأنك لتزال صغيرا ، و قد تتجاوز براءتك ، و لكن غدا ، إن شاء الله ، سيشتد عودك و ينضج فكرك ، وأنت تعرف يا ولدي و لو كنت صغيرا أنّ علاقتي بك محال أن تقوم على المغالطة و بيع الأوهام ، فهذا شأن أصحاب المصالح الظرفية وأهل كثير من الأحزاب الدنيوية، و إنّما هي قائمة على الإخلاص و الوفاء والمحبة ، و المحب لمن أحب دليل و ناصح أمين .
إليك و إلى كل الأبناء و البنات من أبناء المسلمين في كل مكان و في كل زمان أقدم هذه النصائح ، فكلكم أبنائي و بناتي ، عليكم أغار و أدافع و أنافح ، و لا أتمنى لكم إلاّ الهداية الربانية و الفلاح و النجاح في الدينا و الآخرة و خاصة إذا ماكنتم صالحين ولأبائكم بارّين وإلى بلادكم نافعين .
و لك يا ولدي أن تدعو الله بهذا الدعاء : اللهم إني أعوذ بك من أن أزِّل أو أ ُزَل أو أظلِم أو أ ُظلََم أو أضِّل أو أ ُضل أو أ َجهَلَ أو يُجهَل عليَّ . و لك أن تدعو الله أيضا : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن و الجبن و البخل و غلبة الدّين وقهر الرجال . و غير ذلك من الأدعية المأثورة و غير المأثورة ، فالدعاء مخ العبادة و هو سلاح المؤمن و خاصة عند الشدائد و في المحن . أسال أن يهديك لما يحبه و يرضاه و يصلح حالك في الدنيا و الآخرة ، إنّه سميع مجيب .
مصطفى عبدالله الونيسي/ باريس
الإثنين 3شوال1428هـ الموافق 15أكتوبر 2007م
نظام الحكم في الاسلام : نشأة وصيرورة (ج2) / الأستاذ مصطفى لونيسي
بسم الله الرحمان الرحيم
البحث الأول :نظام الحكم في الإسلام :نشأة و صيرورة
مصطفى عبدالله الونيسي/باريس/فرنسا
الفصل الأول :محمد بن عبدالله(ص)المؤسس الأول للدولة الإسلامية :
الحلقة الخامسة : تعدد الصور و الأشكال لمحاربة الدعوة الجديدة :
3)الحرب النفسية والتهديد بالقتل : لمّا أيقنت قريش أنّ محمدا صلى الله عليه و سلم لا يمكن أن يحيد عن الدعوة التي جاء بها، و أن مغريات الدنيا كلها مجتمعة لا يمكن أن تؤثر فيه أو تفل في عضده ، فهو رسول و نبي مرسل اصطفاه الله و اختاره لتبليغ ما نُزّل إليه من ربه ، كلفه ذلك ما كلفه ، عمدت (أي قريش) إلى أساليب أخرى في محاربته أكثر شراسة و عنفا. واعتمدوا من هذه الأساليب الحرب النفسية و تكثيف الدعاية المضادة للدعوة الجديدة و التهديد بالتصفية الجسدية لشخص الرسول (ص) و أصحابه الكرام رضي الله عنهم جميعا . لقد قالوا أنّه ساحر،و شاعر، و كاذب، و مريض ،و مجنون ......إلى غير ذلك من الصفات التي تنفي عن الرسول (ص) استواء الشخصية و توازنها . كما أنّ قريشا اعتمدت ،أيضا ، في محاربة الدعوة الجديدة أساليب الإحراج و طرح الأسئلة التعجيزية للنيل من معنوياته (ص)، و يعكس لنا القرآن هذا الأسلوب في سورة الإسراء : ( و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنّة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ،أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا ،أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ،قل سبحان ربي هل كنت إلاّ بشرا رسولا.). و بتأيد من الله سبحانه لم يكن النبي ليستجيب لاستفزازاتهم،و إنّما كان يقول لهم (ص) : (ما بهذا بعثت إليكم ، إنّما جئتكم من الله بما بعثني ، و قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ،فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة ، و إن تردوه عليّ ، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني و بينكم ). و يأتي القرآن الكريم ليؤكد هذا الخيار الصائب الذي ترعاه العناية الربانية في مواطن متكررة ومن ذلك أنّ أبا جهل بن هشام جابه الرسول صلى الله عليه و سلم وواجهه قائلا : (والله يا محمد لتتركن سبّ آلهتنا أو لنسُبّن إلهك الذي تعبد)، فتجيء تعليمات القرآن مُوجهة الفعل النبوي في الإتجاه الصحيح و القويم(ولا تسُبُّوا الذّين يدعون من دون الله فيسُبُّوا الله عدوا من غير علم ) الأنعام آية108
4) الإيذاء الشامل :
ومن الحرب النفسية و التهديد بالقتل، مرت قريش إلى مرحلة الإيذاء المباشر و الفعلي ، و من ذلك قول أبي جهل لزعماء قريش :( يا معشر قريش إنّ محمدا قد أبى إلاّ ما ترون من عيب ديننا ، و شتم آبائنا،و تسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، و إني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر ما أطيق حمله،فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو مناف ما بدا لهم !!
قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد !!
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله ينتظره ، و غدا رسول الله (ص)كما كان يغدو ، و كان بمكة ،و كانت القبلة إلى بيت المقدس بالشام،فكان إذا صلى ، صلى بين الركنين البرّاني و الأسود،و جعل الكعبة بينه و بين الشام....، فقام يصلي ، و قد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول الله (ص) احتمل أبو جهل الحجر ،ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا ،قد يبست يداه على حجره ....و قامت إليه رجال قريش فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ؟قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة ، فلمّا دنوت منه عرض لي فحل من الإبل لا و الله ما رأيت مثل هامته،....و لا أنيابه ....، فهمّ بي أن يأكلني !!
قال بن اسحاق : فذُكر لي أن رسول الله قال : ( ذلك جبريل عليه السلام ، لو دنا لأخذه )(1) و من ذلك أنّ زعماء الكفر من قريش ،كانوا يجتمعون قريبا من الكعبة حتى إذا طاف بها الرسول غمزوه بكثير من القول البذيء و الباطل ،و كان يرد عليهم : ( أتسمعون يا معشر قريش ؟ أ مّا و الذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح(أي بالهلاك إن لم تؤمنوا ) ) . و كانوا كثيرا ما يأخذون بمجامع ثيابه قائلين له أنت الذّي تقول كذا و كذا في عيب آلهتنا و آبائنا ، و كان يجيبهم دائما بكل صراحة وبلا خوف أو لف و دوران : ( نعم أنا الذّي يقول ذلك ). ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو
بن العاص أنه قال : (بينما النبي (ص) يصلي في حجر إسماعيل إذ أقبل عقبه أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبوبكر حتى أخذ بمنكبه ، و دفعه عن النبي (ص) و قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله )(2). و منه ما رواه الطبري و ابن اسحاق أنّ بعضهم عمد إلى قبضة من التراب فنثرها على رأسه و هو يسير في بعض سكك (طرق) مكة ، و عاد إلى بيته و التراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هي تبكي و رسول الله يقول لها :يا بنية لا تبكي ، فإنّ الله مانع أباك )(3) . و أمّا أصحابه (ص) فقد تجرعوا من العذاب ألوانا ، حتى استشهد منهم من استشهد، و عمي منهم من عمي ....، و لم يثنهم ذلك عن دين الله شيئا ، و نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما رواه الإمام البخاري عن خبّاب بن الأرتّ أنّه قال : ( أتيت النبي (ص) و هو متوسد بردة و هو في ظل الكعبة ، و قد لقينا من المشركين شدة ، فقلت يا رسول الله :ألا تدعو لنا ؟فقعد وهو محمر الوجه ، فقال : لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه. و ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله )(4) و في رواية أخرى : ( لا يخاف إلاّ الله و الذئب على غنمه و لكنكم تستعجلون )
5) الحصار الإقتصادي و التهميش الإجتماعي :
و رد بأسانيد مختلفة ، أنّ كفار قريش أجمعوا أمرهم على قتل الرسول (ص) هذه المرة ، و كلموا في ذلك بني هاشم و بني عبدالمطلب،إلاّ أنّ هؤلاء رفضوا رفضا مطلقا تسليمه (ص) إليهم، و لو لم يكن هذا الأخير على دينهم . يذكر البلاذري
أنّ قريشا توعدت بقتل الرسول (ص) ، سرّا و علانية، و قالت :لا صلح بيننا و بين بني هاشم بني المطلب و لا رحم ولا حرمة إلاّ على قتل هذا الرجل الكذاب السفيه. و عمد أبو طالب إلى الشعب بابن أخيه و بني هاشم و بني المطلب ،و كان أمرهم واحدا، و قال :نموت من عند آخرنا قبل أن يوصل إلى رسول الله (ص). و دخل في الشعب من كان من هؤلاء مؤمنا أو كافرا (5)، رفضا للظلم ،أو حمية ، أو إيمانا .
وعرفت قريش ،أنّه لا قبل لها اليوم بقتل النبي محمد و قد وقف إلى جانبه بنوهاشم ،مؤمنهم و كافرهم، و بنو عبدامطلب، كافرهم ومؤمنهم،كالبنيان المرصوص،فلجأت إلى ظلم آخر دون القتل و لكنه قد يكون أشد مرارة و أخطر سلاحا في مستوى النتائج و النهايات المنتظرة. جاء في كتاب (الرحيق المختوم) : (وقعت أربع حوادث ضخمة ــ بالنسبة للمشركين ــ خلال أربعة أسابيع ، أو في أقل مدة ، منها :أسلم حمزة ،ثم أسلم عمر ، ثم رفض محمد (ص) مساومتهم، ثم تواثق بنو عبدالمطلب ، و بنو هاشم كلهم مسلمهم و كافرهم على حماية محمد (ص) و منعه ، و حار المشركون ،و حُق لهم أن يحيروا ، إذ عرفوا و تيقنوا ، أنهم لو قاموا بقتل محمد (ص) يسيل وادي مكة دونه بدمائهم، بل ربما يفضي إلى استئصالهم....عرفوا ذلك، فانحرفوا إلى ظلم آخر دون القتل،لكن أشد مضاضة عما فعلوا به)(6). و لمّا عجزت قريش عن قتل النبي صلى الله عليه و سلم ، أجمع زعماءها على منابذة النبي و مقاطعته و مقاطعة من معه من المسلمين ومن يحميه من بني هاشم و بني عبدالمطلب ، وكتبوا في ذلك صحيفة تعاهدوا على تنفيذ بنودها بكل صرامة وعلقوها في جوف الكعبة ،ليضفوا عليها نوعا من القداسة ، و قد جاء فيها :( باسمك اللهم . على بني هاشم و بني المطلب على ألاّ ينكحوا إليهم و لا ينكحوهم ،ولا يبيعوهم شيئا و لا يبتاعوا منهم، و لا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلوه)(7). استمرت هذه المقاطعة الظالمة سنتين و عدة أشهر ،و قيل سنتين فقط . و تفيد رواية موسى بن عقبة أنّ ذلك كان قبل أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، وإنّما أمرهم بها أثناء الحصار . أمّا رواية ابن اسحاق فتدل على أن كتابة الصحيفة كانت بعد هجرة أصحابه إلى الحبشة و بعد إسلام عمر. و كان لا يصل إلى المسلمين و من معهم ، أثناء هذه المقاطعة ،شيء إلاّ سرّا ممن أراد مساعدتهم من قريش بدافع من عصبية أو نخوة أو عطف. و لاقى المسلمون و نبيهم و حلفاءهم عذابا شديدا و آلاما قاسية من الجوع والخوف و العزلة و الحرب النفسية(8) . جاء في الصحيح، أنهم جُهدوا جهدا شديدا في هذه الأعوام حتى أنهم كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر . و ذكر السهيلي أنهم كانوا إذا قدمت العير مكة ، يأتي أحد أصحاب محمد إلى السوق ليشتري شيئا من الطعام لأهله ، فيقوم أبولهب مناديا : يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم ، فيزيدون عليهم في السلعة أضعافا، حتى يرجع إلى أطفاله و هم يتضاغون من الجوع و ليس في يده شيئ يطفيء جوعتهم. فلمّا كان على رأس ثلاث سنوات أو سنتين ،بحسب الرواية المعتمدة،من بدء الحصار ، تلاوم قوم من بني قصي ، فأجمعوا أمرهم على نقض الصحيفة ،وكان الله قد أرسل على صحيفتهم هذه الأرَضة، وهم لا يعلمون ،فأتت على مُعظم ما فيها من ميثاق و عهد ، و لم يسلم من ذلك إلاّ الكلمات التي فيها ذكر الله عز و جل. و قد أخبر رسول الله عمه بذلك، و هذا من آيات نبوته، فقال له عمه أبو طالب : ( أربك أخبرك بذلك ؟قال :نعم ، فمضى في عصابة من قومه إلى قريش ، فطلب منهم أن يأتوه بالصحيفة مُوهما إياهم أنه قد ينزل عند شروطهم ، فجاؤوه بها و هي مطوية ، فقال : لهم إنّ ابن أخي قد أخبرني ، و لم يكذبني قط، أنّ الله تعالى قد سلط على صحيفتكم الأرضَة فأتت على كل ما كان فيها من جور و قطيعة رحم ،فإن كان الحديث كما يقول فأفيقوا و ارجعوا عن سوء رأيكم ، فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا ، و إن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا ففعلتم به ما تشاؤون. فقالوا : قد رضينا بما تقول. ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم. و لكنّ القوم أصروا على الكفر و استكبروا استكبار كما هو شأن الطواغيت دائما و قالوا :هذا سحر ابن أخيك !)…. و ما زادهم ذلك إلاّ بغيا و نفورا . ولكنّ الله عز و جل ، لمّا أذن بالفرج ، قيّض رجالا من ذوي المروءات و الحسب من قريش تفجرت الرحمة من قلوبهم كما تتفجر الأنهار من بعض الأحجار الصمّاء ، فتعاهدوا على نقض هذه الصحيفة الظالمة و هذا الحصار الآثم. و هؤلاء الرجال هم خمسة من رؤساء المشركين من قريش ،كما تذكر كتب السيرة، : هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية ،و المطعم بن عدي،و أبو البختري بن هشام، و زمعة بن الأسود. وكان أول من سعى إلى نقضها بصريح الدعوة هو زهير بن أمية حينما أقبل على النّاس عند الكعبة و قال :( يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ن و نلبس الثياب و بنو هاشم و المطلب هلكى لا يُباعون و لا يُبتاع منهم؟....و الله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة). و قال بقية الخمسة نحوا من هذا الكلام،ثم قام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فمزقها ، ثم انطلق هؤلاء الخمسة ،ومعهم جماعة ،إلى بني هاشم و بني المطلب و من معهم من المسلمين فأمروهم بالخروج من الشعب إلى مساكنهم. و هكذا تشاء إرادة الله تعالى أن تكون هذه المقاطعة الجائرة سببا لتعاطف النّاس مع أصحاب هذه الدعوة الجديدة ، و كان ذلك التحدي، من طرف القلة المؤمنة الصابرة المظلومة للكثرة من أهل الطغيان الذين يملكون الجاه والسلطان والثروات الكثيرة ،سببا آخر في دخول أُناسيَّ كثيرين في الإسلام من مكة و خارجها و حولها ، إذ صار خبر المقاطعة الظالمة حديث الركبان ،وكان ذلك الإجراء القُرشي ،العُدواني و الجائر، خير دعوة و دعاية و إعلان للدعوة و لحاملي لواءها. و حماية للدعوة الصاعدة و صيانة لها من ناحية ، واستثمارا لتضاعف عدد المسلمين و توسع دائرتهم، ماذا عسى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يفعل لتحقيق كل ذلك؟
و كيف سيدير معركته صلى الله عليه مع المشركين ،الذين لا يريدون إلا القضاء عليه و على دعوته بكل الوسائل و في أسرع وقت ممكن، في المراحل القادمة ؟
مصطفى عبدالله الونيسي/باريس/فرنسا
ا لمراجع:1)السيرة النبوية لابن هشام1/299 2)رواه البخاري
3)الطبري:2/344، سيرة ابن هشام1/158 4)السيرة النبوية لابن هشام
5)أنساب الأشراف :1/ 230 6)الرحيق المختوم
)محمد حميد الله : الوثائق ص44 8)السيرة لابن هشام/تاريخ الطبري2/136 /البلاذري :أنساب1/344
إضاءات من السيرة النبوية في الحكم و السياسة*ج13
أ مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 15 - 03 - 2009
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس/ الفجرنيوز
محمد بن عبدالله صلى الله عليه و سلم المؤسس الأول للدولة الإسلامية:
القتال: حدوده، شروطه و ضوابطه الأخلاقية :
آيات القرآن ، و أحاديث النبيّ صلى الله عليه و سلم ، وتقريراته العملية كُلُّها تقطع بأنّ السّلام هو الأصل و القاعدة الأساسية الأولى التي تطبع علاقات المسلمين بغيرهم من الأمم و الشعوب، و أنّ الحرب في كُلِّ الأحوال ما هي إلاّ استثناء يُضطرُ المسلمون إليه اضطرارا للدفاع عن أنفسهم عندما تفشل كل محاولات الإصلاح و التسويات السلميّة الأخرى . يقول تعالى :" يا أيها الذين النّاس إنّا خلقناكم من ذكرِ وأنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللَهِ أتقاكم " (2). و يقول سبحانه:"فإن اعتزلوكم فَلم يُقاتِلُوكم وألقُوا إليكُمُ السَّلمَ فما جَعَلَ اللَّهُ لَكُم عَلَيهِم سَبِيلاَََ " (3) " وإن جَنَحوا للسِّلمِ فاجنح لها و توكل على اللّهِ " (4).
والحرب في الإسلام لا تتجاوز أسبابها المشروعة ثلاث حالات وهي : الدفاع عن النّفس "قَاتِلوا في سبيل اللّه الذين يُقاتِلُونكم و لا تعتدوا إنّ اللّه لا يُحِبُ المُعتدين " (5)، و الدّفاع عن حرّية العقيدة و التعريف بها لدى النّاس " و قاتلُوهم حتّى لا تكون فتنة و يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّهِ فإِنِ انتهوا فإِنَّ اللَّهَ بِما يعملون بَصِيرُ "(6)، و الدِّفاع عن حقوق المظلومين و المستضعفين من الرِّجَال و النِّساء " و ما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه و المستضعفين من الرِّجال و النّساء و الوِلدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظّالم أهلها" ، و يقول سبحانه "أذِنَ للذِين يُقَاتَلُونَ بأنّهم ظُلِمُوا و إنّ اللّهَ على نصرِهِم لقديرُ . الذين أ خرِجُوا من ديارهم بغير حقِّ إلاّ أن يقولوا ربُّنَا اللّهُ "(7)
فهذه الأسباب الثلاثة ، الدّفاع عن النّفس، وعن الحرية و خاصة منها حرية المعتقد ، و عن حقوق الإنسان، متى انتهت ، انتهت معها الحرب وعاد المسلمون إلى الأصل الذي هو السِّلم و التعارف بينالأمم و الشعوب و تبادل المنافع و المصالح، يقول الله تعالى" يا أيها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ، إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم "(7). فما هي شروط القتال ؟ و ما هي دواعيه؟ و ما هي آدابُه واخلاقياته؟
إنّ للقتال في الإسلام شروط شرعية و ضوابط أخلاقية لا يجوز للمقاتل المسلم أن يتجاوزها مهما كان، وإن تجاوزها فهو آثم . ونتحدث عن القتال باعتباره جزءا من الجهاد ، إذ الجهاد أعم من القتال بكثير ، و هو مبحث واسع ليس هذا مجاله . و في كلِّ الأحوال ، مهما يكن السبب لقيام الحرب ، فإنّ للقتال شروطه وآدابه ،كما قلنا، التي لا يجوز للمجاهد أن يستخف بها مهما كانت الظّروف ، و مهما كانت وحشية العدو المتربص بالمسلمين. و هذه المبادئ و الشروط هي عبارة عن مجموعة من القواعد و المبادئ و السلوكيّات العسكرية التي جاء بها الإسلام وطبقها النبيّ (ص) على نفسه و على أصحابه وطالب المسلمين الالتزام بها مهما كانت الظّروف و الملابسات. و من هذه المبادئ و القيّم، أنّ الإسلام يفرض على المسلمين الاعتناء التّام بالجرحى و مُداواتهم و إطعامهم و لو كانوا أعداء ، و يحرم عليهم الإجهاز على الجرحى أو إها نتهم بأي شكل من الأشكال.
كما أن التشريع الإسلامي يفرض على المسلمين تَجنيب المدنيين شرور الحرب وأخطارها. فالنّساء و الأطفال و كِبار السّن، بل و الفلاّحون في حرثهم و الرُّهبان في معابدهم ، كُلّ أولئك دماءهم و أموالهم معصومة . و يوصي الإسلام المقاتلين من المسلمين بعدم التعرض للأهداف المدنيّة ، و ينهاهم عن التخريب و التدمير، في أي شكل من أشكاله، لأنّ الإسلام جاء ابتداء للبناء و الأعمار و لم يأت للهدم و الخراب . و كان الرّسول صلى الله عليه و سلم بلا شك هو القدوة الحسنة الأولى في الالتزام بهذه المبادئ و الآداب في ميادين القتال و المعارك. روى " أبو ثعلبة الخشني" رضي الله عنه: ( إنّ ناسا من اليهود يوم خيبر جاءوا إلى رسول الله (ص) بعد تمام العهود، فقالوا إنّ حظائر لنا و قع فيها أصحابك ، فأخذوا منها بقلا و ثوما ، فأمر رسول الله (ص) "عبدالرحمان بن عوف " رضي الله عنه فنادى في النّاس : أن رسول الله يقول لكم : لا أ حِلّ لكم شيئا من أموال المعاهدين إلاّ بحق .)
والدّارس المنصف للتاريخ الإسلامي يعرف أنّ الرّسول (ص) قد صبر و صابر على امتداد ثلاثة عشرة سنة، رغم التعذيب و الإهانة و المحاصرة و التجويع ، و لم يلجأ إلى الجهاد إلاّ عند الضرورة لمّا أذن الله له بذلك، مثلما كان الحال عندما اضطهدت قريش المسلمين وعذبتهم و أخرجتهم من ديارهم قسرا ، بل و لاحقتهم بالأذى حتى و هم في مَهَاجرِهم في المدينة ، بالإضافة إلى مؤامرات اليهود و غدرهم و خياناتهم للمسلمين. ولمّا انتقل النبيّ ( ص) إلى المدينة وأصبح للمسلمين قاعدة للقتال ينطلقون منها للدّفاع عن أنفسهم بدأ الرّسول (ص) في إعداد جيش من المجاهدين المخلصين لحماية الدولة الجديدة و فداء الدّعوة و رمزها الأول محمد بن عبدالله النبي المرسل و الرحمة المهداة إلى العالمين بكل غال و نفيس .
و كان (ص) في هذا المجال كما في غيره هو القائد و القدوة لأصحابه الكرام ، فقاد بنفسه سبعا و عشرين غزوة ، قاتل في تسع منها ، هي (بدر ، و أحد ، والأحزاب ، و بنو قريظة ، وبنو المصطلق، وخيبر ، وفتح مكة ، وحنين ، والطائف )، وأناب أصحابه في قيادة سبع و أربعين حملة عسكرية أخرى . و مهما يكن عدد السرايا و الغزوات و الحملات مرتفعا ، فإنّ عدد الضحايا مجتمعين من الفريقين كان قليلا جدّا لا يتجاوز أربعمائة قتيل ، و كان شهداء المسلمين في تلك المعارك نحو مائتي شهيد ،منهم سبعون قُتِلُوا مرّة واحدة غدرا في "بئر معونة" ، في حين لم يتجاوز قتلى المشركين المائتين أيضا . و هذه الإحصائيات هي خير دليل على حرص النبي الشديد على حقن الدّماء، و صيانة الأرواح البشرية ، وحصر الحرب في أضيق نطاق ممكن لا تتجاوزه .
فالنبيّ (ص) و أصحابه الكرام ، فداء للإسلام و جهادا في سبيل اللّه ، خاضوا صراعا مريرا مُتعدد الواجهات : مع الوثنية القرشية في مرحلة أولى و خاصة في معركة( بدر الكبرى و أحد و الخندق) ، ومع الوثنية القرشية مرة ثانية في ( صلح الحديبية و فتح مكة ).كما أن النبي كان قد خاض صراعا مريرا و صعبا ضد اليهود و حركة النفاق في العهد المدني، كما كان للنبي صراع آخر مع النصارى.(8)
و لعله من نافلة القول أنَّ أفضل ما ينبأ عن حقيقة الإيمان و معادن المجاهدين و المجاهدات هو أخلاقهم و مواقفهم و التزامهم بالمبادئ و القيّم و هم يجابهون المحن و الصعوبات و الفتن . فكيف كانت أخلاق الرّسول صلى الله عليه و سلّم وأخلاق اًصحابه وهم يحاربون أعداء يفوقونهم عُدّة و عتادا ؟.كيف كانت مشاعرهم و مواقفهم ومعاملتهم لأعدائهم سواء عند النصر أو عند الهزيمة وفي المحن و عند ساعات الشّدة و العسرة؟.ولإعطاء صورة تقريبية عن ذلك كان لابُدَّ من الرّجوع إلى السيرة النبوية لتقديم خُلاصاتِ و لو موجزة عن تلك الصراعات والمعارك و الغزوات التي خاضوها في سبيل الله ضد قوى الهيمنة و الشرك بمختلف ألوانهم و أشكالهم ليحيَ من حيَّ عن بيّنةِ و يهلك من هلك عن بيّنة .
الأستاذ نورالدين ختروشي رئيس تنسيقية حق العودة وبقية إخوانه الأفاضل : تحية طيبة.
تلبية لدعوتكم لنا بالكتابة في سجلكم الذهبي، اسمحوا لي أن أعبر لكم عما يجول في نفسي من خواطر عساها تجد لدى بعضكم آذانا صاغية و عقولا واعية ونظرا أرحب.
أوّلا أتمنى أن ينعقد مؤتمركم في ظروف طيبة، وأن تتأسس منظمتكم على إرادة وطنية حقيقية لخدمةالتونسيين و التونسيات والدفاع عنهم وعن حقوقهم في الحرية و الكرامة دون إقصاء أو استثناء لأحد مهما كان توجهه السياسي و الفكري و الثقافي و الديني.
إنّ الدّفاع عن حقوق النّاس و خاصة المستضعفين منهم، لهو من أنبل الأعمال، وهو من أفضل القُربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه. فما أروع العمل الحقوقي و ما أجمله عندما يكون شاملا و عادلا ومخلصا في الدفاع عن كرامة المواطن وخاصة عندما يكون هذا الأخير مظلوما و مقهورا، و قد قال الله تعالى في الحديث القُدسي : ( من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب). فتأسيس منظمة إنسانية مهمتها الأساسية الدفاع عن حقوق النّاس ، واجب يفرضه الواقع السياسي،وواجب النصرة،والفطرة الإنسانية السليمة، وإرادة المقاومة والتصدي للإستبداد بكل أشكاله، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب. ولكن أيماننا المبدئي بشرعية الدفاع عن حقوق الناس ،لا ينبغي أن يحجب عنّا ما يرتكبه العديد من المحسوبين على العمل الحقوقي من انحرافات لا تمت للعمل الحقوقي و قدسيّته بصلة. وهذا النوع من الإنحراف بالعمل الحقوقي، بل قُلْ الإبتزاز الحقوقي لاحظنا شيئا منه في صفوف جزء من معارضتناالتونسية في المهجر. فتلك الأبعاد الإنسانية النبيلة التي جاءت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية لرعايتها و صيانتها قد اعتراها دخن كبير بسبب الحزبية والنظر الجزئي وردود الأفعال الصبيانية. فالدفاع عن حقوق الإنسان هو مطلب في ذاته نبيل، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يصبح شماعة نُعلق عليها عجزنا و فشلنا، ومجالا لتصفية الحسابات وتكريس الإستثناء وتقديم المصالح الفئوية الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العامة التي هي أولى بالتقدير و الإعتبار.
المشكلة التي أريد التعليق عليها لا تكمن،إذا، في شرعية مثل هذه المبادرات وضرورتها، بقدر ما تكمن في كيفية تنزيل مثل هذه المبادرات و في كيفية عرضها، وفي مدى استقلاليتها وتمثيليتها ومصداقية القائمين على شؤونها. فقبل التفكير في التأسيس،كان ينبغي التفكير ألف مرة في كيفية التأسيس، وتحديد أهدافه بدقة، ورسم آلياته ووسائله وشروط نجاحه، ليكون هذا التأسيس قائما على أسس راسخة تضمن له البقاء والاستمرار والقدرة على مجابهة العواصف و الأعاصير التي تنتظره، وتصونه من الإنحراف عن أهدافه و غاياته. وبناء عليه،أتساءل حتى اللحظة هل توفرت أسباب و شروط نجاح تأسيس مثل هذه المبادرات الحقوقية و الإنسانية، أم هي الأوهام وردود الأفعال ومحاولة توظيف الأحداث ؟ هذا ما ستجيبنا عليه الأيام القادمة والتاريخ.
أمّا ما أستطيع قوله كَمَعْنِيّ ٍ بهذا الموضوع من قريب في الوقت الراهن، هو أنكم، أيها المؤتمرون،تعرفون قبل غيركم، أنكم قد تعرضتم لضغوط ظاهرة و خفية أثناء إعدادكم لمثل هذا الحدث لتستبعدوا صنفا من المناضلين من المساهمة في تأسيس مثل هذا العمل وحرمانهم من ذلك لإعتبارات واهية ما أنزل الله بها من سلطان، فهم لم يرتكبوا ذنبا أو معصية، ولكنهم اختلفوا مع المتحزبين منكم والإقصائيين في تقدير موقف واضح مما أصبح يعرف( بحق العودة )،فركنتم إليهم،أي المتحزبين، وانحرفتم بالتالي ومنذ الوهلة الأولى وقبل التأسيس أصلا، بمنظمتكم عن الدور الذي يجب أن تلعبه وتؤديه. وما أخشاه عليكم هو أن تُولد منظمتكم ميتة أو عرجاء، أو مُشوهة الخلقة،فيكون الخاسر الأكبر هم ضحايا الإستبداد ، في حين أنه كان بالإمكان أن يولد هذا الوليد المنتظر في أحسن تقويم،لولا التحزب والوصاية وسوء الظن بمن خالفكم الرأي من التونسيين .
نعم ، لقد عُدت إلى وطني لمّا سمحت الظروف بذلك، وعاد أمثالي، وذلك هو الأصل، بناء على موقف وطني واضح وتقدير مصلحة سياسية، ولكننا، وهنا أتحدث عن جزء من العائدين الذين أعرفهم، متحمسون للإنخراط في مثل هذا العمل الإنساني لو توفرت له شروط النجاح، ومستعدون للدفاع عن كل المغتربين حتى يعود آخر مغترب فينا إلى بلده عزيزا مُكرما. فعودتنا إلى بلادنا حق من حقوقنا،وهي لا تتناقض مع استعدادنا وإرادتنا في الدفاع عن المظلومين والمقهورين،سواء كانوا داخل البلاد أو خارجها. وعودتنا هي عنوان لمرحلة جديدة من النضال والمقاومة السلمية في ثوب جديد، واستراتيجية جديدة،قائمة على التعايش السلمي ،والإعتراف بالأخر والحوار واحترام القانون والمؤسسات، وذلك لأن المرحلة السابقة،بإيجابياتها و سلبياتها، قد استنفذت أغراضها و تجاوزها الزمن. ويُخطأ خطأ فادحا من يظن أن العودة ، شرطها اللازم لها هو السكوت عن حقوق المظلومين الإجتماعية و السياسية، سواء كان هؤلاء من أعضاء حركة النهضة أو غيرها. هذا ظن قائم على محاكمة النوايا و السرائر، والظن لا يغني من الحق شيئا، بل إن الظن، في حده الأدنى، بعضه إثم مبين، إن لم يكن كله أو أكثره كذلك، كما وضح لنا القرآن الكريم ذلك. إن الذين يُصْدِرُونَ في مواقفهم عن مثل هذه الأفكار، هم ضحايا ثنائيات متقابلة ومتطرفة لا مكان لها في فكرنا الإسلامي الوسطي المعتدل. ومن كان هذا شأنه فهو لا يستطيع أن يقرأ مواقف النّاس خارج هذه الثنائيات التي اصطنعها لنفسه، وهذا شر عظيم، ومدخل للشيطان، ومبرر للإستبداد . و الذي يعتقد أنّ المخالف له في الرأي هو عدو مبين، فهو مخطأ في حق نفسه أوّلا، و في حق المجتمع ثانيا. ففكرة من ليس معي فهو ضدي،هي فكرة غريبة عن الفكر الإسلامي الحضاري،وهي فكرة ( بوشية)، والأغرب منها رغم أننا كنا و لا زلنا ضحايا هذا المنطق، هو أننا كلما سنحت لنا الفرصة لنثبت للعالم والنّاس أننا لسنا كجلادينا،إلا وأثبتنا لهم،وللأسف، أننا لا نختلف عنهم كثيرا في مستوى الممارسة العملية والسلوك اليومي. ولذلك عندما قررنا أن نضع حدا لهذه السلبية،التي قتلت فينا الروح النضالية، ونتحمل مسؤوليتنا،على الأقل، في شأن خاص، عده متخشبو الخطاب خلاصا فرديا، لم تتسع صدور القوم لذلك،وتألقوا في اختراع أساليب للإقصاء والتهميش لم نكن نعرفها من قبل. وبناء عليه فعودتنا إلى الوطن العزيز،لم تكن لحسابنا الخاص وحسب،كما يريد المتحزبون أن يصوروا لنا ذلك،بل هي كانت لحساب طرح ملف المهجرين برمته، هذا الملف الإنساني المنسي، بشكل أكثر جدية و مسؤولية. وهي قد خدمت هذا الغرض ولكن من حيث لا يتمنى المُتنفذون،والدليل على ذلك هو هذا الإهتمام المتزايد بهذا الملف ،وهذه الهرولة في كل اتجاه للالتفاف عليه ومحاولة توظيفه سياسيا و تدارك ما يمكن تداركه،وإلاّ فما سرّ هذا الإهتمام المتزايد بهذا الملف ، وفي هذا الظرف بالذات بعد فوات الأوان نسبيا و بداية رحلة العودة إلى البلد؟
و أقول أيضا و بكل تواضع ، يكفي من عادوا إلى البلاد أن صنعوا الحدث ودفعوكم دفعا للاهتمام بمثل هذا الملف الوطني والإنساني . فهذا الحراك الذي أحدثته عودتنا هو غرض من أغراض عودتنا ،لتحريك المياه الراكدة، ولكنكم لم تفقهوا ذلك جيّدا. الغريب فيكم، أيضا، أنكم لم تدركوا أن تواجدنا معكم ، كان يمكن أن يعطي منظمتكم هذه مزيدا من المصداقية، ومزيدا من الضغط على النظام، في آن واحد، ويُبعد عنكم شبهة الإقصاء والتحزب.
ألم تُدركوا أنكم باستثناءنا قد هدرتم فرصة استثنائية لإنطلاق علاقة جديدة كان قد اعتراها شيء من الفتور و التوتر بسبب اختلاف فرعي في قضية، نعُدها، جدّ ُ ثانوية و لا ترق إلى أن تكون سببا لكل هذه الكراهية و الأحقاد.؟ ألم تُدركوا ،بعد، أنّكم بإقصائنا قد قدمتم خدمة أخرى للنظام ، كما هو شأنكم دائما؟
ألم تدركوا أن ما بُنِيَ على الإقصاء وردود الأفعال الصبيانية، والأمزجة الشخصا نية، والأحقاد من أول يوم ، لن يكون إلا عملا ناقصا ، ومطبوعا و متأثرا حتى النخاع بهذه الأمزجة والأحقاد؟ ألم تتعلموا من مدرسة
الحياة أنه ما طغى التَسيُسُ على أمر ذي بال إلا أفسده و أهلكه؟
لقد حاولنا التواصل معكم من أجل توحيد الصفوف وإيقاف التلاسن،فأخذتكم العزة بالإثم،وأبيتم إلاّ القطيعة من جانب واحد، ولكن فعلتم فعلتكم التي فعلتم في صمت وفي الكواليس التنظيمية، ودون سابق إعلام. فالعمل الحقوقي والإقصاء، ضدان لا يجتمعان ولا يلتقيان أبدا.
أستاذ. نورالدين، إن كل ما ورد من تقييمات سلبية لهذه المبادرة لا نقصدك بها ولا تنطبق عليك ولا على إخوانك المخلصين للعمل الحقوقي. وأنا أعرف جيدا أنك صادق و مخلص في خدمة التونسيين و التونسيات،وأنك وجمع من إخوانك لا تريدون إلا الخير والإصلاح، ولكنكم قلة ، والمتحزبون ، ضيقي النظر لن يسمحوا لكم إلا بهامش ضيق من حرية التصرف لا يتناقض مع أجنداتهم الحزبية الضيقة. ولذلك فأنا مقدر ما أنت فيه من حرج، فلا تثريب عليك و لا على إخوانك المخلصين .
أستاذ نورالدين، لقد كنتم صادقين ومتحمسين لإعداد مثل هذا المؤتمر، فعُقِدَتِ الندوات الإعدادية ، وقيلت الكلمات التعبوية، وَوُزِّعَتِ الدعوات لحضور هذا المؤتمر، يمنة ويسرة، ولم يكن لأمثالي في كل هذا الحراك نصيب ، لا لأننا رفضنا ذلك، ولكن لأن أصحاب المال والسلطان فيكم لا يرغبون في حضورنا خشية َ انكشاف ضعف مواقفهم وتهافت حججهم. لا شك أن تنظيم مؤتمر في سويسرا بهذا الحجم، يُستدعى له الضيوف و النواب و المؤتمرون من القارات الخمس كما قلتم يتطلب أموالا هائلة وإمكانيات ضخمة لا يقدر عليها إلا المتصرفون في المال العام ، وهؤلاء بطبيعة الحال مؤتمنون على هذا المال ولا يريدون أن يفسد عليهم عُرسهم الحقوقي أحد ٌ خالفهم الرأي والإجتهاد. فمن توفرت له مثل هذه الإمكانيات، فلا أستغرب منه شيئا يعمله من أجل أن يحافظ على مثل هذه الحُظْوَةِ والإمتيازات،ولكن الذي يثير في نفسي الشفقة في هذه العملية هو أنتم، أ. نورالدين وإخوانك لأنكم ستصبحون أجراء عند أصحاب السلطان و المال لا تملكون حولا و لا قوة، وأنتم في تقديري أكبر من أن تكونوا رهائن أو مجرد أجراء عند هؤلاء، أمّا إستثنائي أو استثناء غيري من الوطنيين الأحرار الذين أفنوا شبابهم في خدمة الصحوة الإسلامية ولكنهم بقوا مُصرين على حريتهم و كرامتهم ، لا يخافون في الله لومة لائم،فهذا أمر طبيعي،ووسام شرف نعتز به .
لقد استكثر علينا القوم عودة إلى البلاد بعد غياب عنها دام أكثر من ستة وعشرين سنة. قوم نسوا كل شيء،ولم يبق في نفوسهم إلا الأحقاد، وذلك لأن المتحزب لا يرى إلا الشق الفارغ من الكأس، ولا يرى المصلحة إلا فيما يراه التنظيم مصلحة. أمّا نحن فلا نخلط بين الأمور،ولا نبني مواقفنا على ردود الأفعال، وسنظل نطالب،إذا، بعودة كل المغتربين بكل الأشكال القانونية المتاحة بكل إخلاص و تفان، وبعيدا عن الأضواء وتوظيف آلام الآخرين لخدمة حسابات سياسوية ضيقة ، أحب من أحب و كره من كره. فلا أحد، و خاصة في هذا المجال، يمكن أن يزايد علينا.
لقد خرجنا من تونس، سنة 1981من القرن الماضي، تونسيين، وعدنا إليها سنة 2007تونسيين، وسنظل ما حيينا أبدا، إن شاء الله، تونسيين مؤمنين بالله رب العالمين، مصلحين مخلصين لبلادنا و شعبنا وأمتنا،ولن تَفِلّ في عزمنا هذا، لا محاصرتكم ولا أحقادكم ولا أوهامكم.
هذا حالنا الذي لا يخفى على الكثير من المخلصين من أبناء شعبنا، أمّا حال الكثير من هؤلاء الذين يُزايدون علينا في الوطنية،فقد خرجوا من تونس بعدنا بعشرة سنوات على الأقل،فنفذ صبرهم، وتجنسوا بجنسيات أروبية في أول فرصة سنحت لهم، رغم أنّ رؤوسهم قد اشتعلت شيبا، و بلغوا من العمر عُتيّا، فأصبح ولاءهملتونس ولاء ، أقل ما يُقالُ فيه، مُزدوجا، ومع ذلك فنحن نحترم اختيارهم، و نطالبهم، فقط، بشيء من الحياء والمروءة.
عُدنا إلى بلدنا،والحمدلله،وهذا ما نتمناه أن يتحقق لكل التونسيين و التونسيات،إلا من أبى،و سنظل نُدافع عن المستضعفين حاضرا و مُستقبلا،ولكن بأشكال حضارية تُشرف تونس وأهلها.
هذه بعض الملاحظات الشخصية ،إن أردتم سجلوها في سجلكم الذهبي، أو الفضي ، أوغيره من السجلات، أمّا سجلنا الذي اخترنا أن نسجل فيه حقائقنا، ولو كانت حقائق نسبية و شخصية، فهو سجل التاريخ الذي يعلو ولا تعلو عليه سجلاتكم ولو كانت ذهبية أو فضية.
مصطفى عبدالله ونيسي/ باريس
نصيبنا من المصارحة و المنا صحة(مرّة ثانية) مصطفى عبدالله ونيسي
مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 13 - 02 - 2010
تقديم :
( نصيبنا من المصارحة و المنا صحة) هو تعليق كنتُ قد قمت به منذ سنة و نصف تفاعلا مع ورقة تقدّم بها مجموعة من أعضاء حركة النهضة سمّوها ( مذّكرة مصارحة و منا صحة ) لطرحها على قواعدهم من أجل بلورتها والإقناع بها، ولكنّها وقع الالتفاف عليها ، فبقيت حبيسة الكواليس الحزبية و لم تر النُّور حتّى السّاعة كما كنّا توقعنا. و لا يزال مسلسل هذه المذّكرات مستمرا ولكن دائما تحت إمرة التنظيم وشروطه، فَيُستبعدُ من غَضِبَ عليه التنظيمُ و لو من دون وجه حقّ ، ويُقَّرَبُ مَنْ رضِي عنه التنظيم . و في تقديري أن هذه المبادرات ستبقى مُتَسِّمة بعدم الجدّية طالما بقيت خاضعة لإملاءات وشروط خارجة عن إرادة الإصلاح والتفكير الحرّ. وإيمانا منّا بضرورة الإصلاح ، نحاول أن نساهم في إثراء هذا الحوار، ولو عن بُعْدٍ وذلك لسببين : أوّلا لأننا استُبْعِدنا من هذا الحوار قسرا ، ولا ندري لماذا ؟ ، وثانيا لأن الملاحظات التي أبديناها في حقِّ المذكرة الأولى ينسحب أيضا على غيرها من المذكرات طالما أنّ الإطار لم يتغير ، والهدف هو نفسه.
السبت 13فيفري2010
------------------------------------------------------------------------
نصيبنا من المصارحة و المنا صحة.
------------------------------------------------------------------------
الحمد لله كثيرا فقد وفقني الله تعالى أخيرا أن اطلع على مذكرتكم( مصارحة و منا صحة) . وكان ذلك بعد إصرار منّي وإلحاح وأشكر لكم جهدكم الطيب أن شاء الله ، بل وأتفق مع جُلِّ ما ورد فيه من نصح ومصارحة. ولكُمْ أن تتساءلوا لماذا كل هذا الحرص و الإلحاح ؟ فأجيب أن مبعث هذا الحرص هو حُبّي واحترامي الكبير لكم من ناحية ، فجهدكم هذا أفتخر به، و ما يشغلكم أيضا يشغلني وأغلبكم يعرف ذلك.المهم عندي هو أنكم وُفِقتم في ملامسة واقع الحركة و تشخيصه ، كما وُفقتم أيضا في طرح جُملة من الأفكار الجديرة بإمعان النظر فيها وأخذها بعين الاعتبار في محاولة معالجة الأمور و إصلاحها. أسأل الله أن يُبارك جُهدكم ، فيرى هذا المجهود النور فلا تقفون عند هذه الخطوة بل تُتبعونها بخطوات عملية ميدانية جريئة لا تخافون في الله لوْمة لائم عسانا َنُدْرِك ُ إصلاح ما يمكن إصلاحه والله المستعان على ما تصفون.
ولكن بدوري لا أستطيع أن لا أصارحكم بما يخْتَلج في صدري أيها الأحبّة ما دمتم مُستعدين للمصارحة و المناصحة. إنّ مذكرتكم هذه ، بقدر ما أثارت في نفسي قدرا من الرّاحة و الاطمئنان، فهي خُطوة طالما انتظرناها ، بقدر ما أثارت في نفسي أيضا أقدارا من الشعور بالمرارة والتردد في مصارحتكم و التفاعل معكم، بل والشك في قدرتكم على تحمل مسؤولياتكم التاريخية حتى النهاية ،سائلا الله أن لا يكون شعوري هذا في محله، و سأبدي رأي في ذلك و أبين لماذا؟.
و ما سأبديه من ملاحظات ليس المقصود منه هو إحباطكم أو التشكيك في نواياكم ، و إنّما القصد منه هو النصح و المصارحة و التذكير ببعض المعاني التي قد تغيب عنكم وقد لا يشعر بها إلا من ظُلم و لم يجد أحدا من أقرب إخوانه ليذّب عن عرضه و عن حقه في إبداء الرأي حتى و لو كان مخالفا للأكثرية. لا شك أن العمل معكم شرف لي وأنا مستعد لذلك رغم هذا التجاهل الذي أبديتموه تُجاهي ولا أدري ما سببه؟ الحمد لله على كل حال،ولا يهم كثيرا معرفة السبب،المهم أني من جانبي سأوطن نفسي و أدربها و أذكرها بأن لا تعيش على ردود الأفعال، ففي ذلك ذهاب للريح والتعاون دائما خير، و الوحدة أوصانا بها الله في كتابه العزيز و جعلها مقصدا من مقاصد تشريعنا. و في كل الأحوال لا ضير أن يُخطئ إخواني في حقي أحيانا و أخطأ في حقهم أحيانا أخرى فيصبرون عليّ و أصبر عليهم، و نحن جميعا مأجورين ، خير لي ألف مرة من أن أصبر على غيرهم من خصوم المشروع الإسلامي صبرا مُذِلا قد يكون سببه ردود الأفعال والتوتر و حُبُّ الانتصار للذّات. وبناء على ما تقدم اسمحوا لي أيها الأحبة أن أبدي لكم ملاحظاتي على غير ترتيب راجيا منكم أن تقبلوها بصدر رحب، و ما هي في الأخير إلا رأي شخصي إن حالفني فيها التوفيق فذاك من فضل الله تعالى ، و إن كان الحال على غير ذلك فلا ألوم إلاّ نفسي وعزائي في كل ذلك أني ما أردت إلاّ النّصْحُ و المصارحة و التّذكير ببعض المعطيات حتى لا تكون ذاكرتنا ضعيفة، فلا نستفيد و لا نفيد ونبقى نراوح مكاننا. وبناء عليه فإنّ من جملة هذه الملاحظات أذكر:
1) أنّ مُذّكرتكم وردت فيها جملة من الأفكار القيّمة و المفيدة كما أشرت سابقا، و لكنّها إحقاقا للحق لم يكن ما ورد فيها من أفكار في أغلبه اكتشافا جديدا، بل قد سبقتها نداءات كانت قد رُفعت منذ وقت طويل في مناسبات كثيرة من قِبَل أفراد و مجموعات صغيرة كان هدفها الأوحد فيما أعلم، هو رفع لواء الإصلاح و التجديد في وقت نحسبه كان مناسبا للضغط من أجل الإصلاح الحقيقي.
2) وكان يكفي في هذا المقام أن نعود إلى تلك الورقات التي أ ُعدت من طرف مجموعة من الإخوة الكرام منذ اثنا عشر سنة الآن فنقرأها بكل موضوعية وعندها سنقف وتقفون على حقيقة ما نقول، بل قد نجد فيها أحيانا ما هو أبلغ و أشمل مما تكرمتم بطرحه علينا. وأمانة و خدمة للتاريخ قد ننشر هذه الورقات ليطلع عليها الإخوة وكل التونسيين في الداخل و الخارج فيطلعوا على جملة أراء كنّا قد رفعناها منذ ثماني سنوات الآن،وعندها قد يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، فيحكموا لنا أو علينا. وما يحز في النّفسِ اليوم هو أنّه رغم هذا المجهود المُضني حقيقة، فلا أحد من هؤلاء الإخوة الممضين عن المذكرة استجاب لهذه النداءات المتكررة و لو على استحياء، بل العكس تماما هو الذّي حصل من إخوة كنا ننتظر منهم ولو المساندة الجزئية و الرّمزية أو على الأقل أن يتقمصوا دور الحكم لا أكثر فيحصل لهم شرف محاولة التوحيد و الإنقاذ و الدفاع عن الضعيف حتى يأخذ حقه. و حتى لا نُعمّم فإن هذا العتاب يعني إخوة باريس بصفة خاصة. إنّه انطباع قد حصل عند هؤلاء الإخوة الذّين سبقوكم بمثل هذا النوع من المناصحة و المصارحة، وأنا واحد منهم ، و هو انطباع وللأسف لا يعزز مسألة الثقة المتبادلة فيما بيننا و التي هي ضرورية لكل عمل إنساني جادّ و ذلك رغم التوافق الكامل تقريبا على جملة ما ناديتم به في مذكرتكم.
3) علمتنا التجربة أن مقولة الإصلاح من الدّاخل و المبالغة في ذلك ليست دائما مفيدة، بل هي أحيانا تخدم السائد من الأفكار و العقليات أكثر مما تخدم البعد الإصلاحي و التجديدي في حدّ ذاته إن لم تُدّعم بِجُرعة من الضغط الخارجي. فالتنظيم رغم ضروريته وحاجتنا إليه ، فإنّ من مساوئه القُدرة العجيبة على إفراغ المبادرات التجديدية من مضامينها و احتواءها بالكامل أحيانا ولكن بشكل مُشوه في مرحلة أولى، ثُمّ ينفرد بأصحابها ليجعل منهم كبش فداء و سببا لكل داء في مرحلة لاحقة. وهو ما حصل و يحصل منذ زمن طويل. فالتنظيم بما يشتمل عليه من ميكانيزم و منطقِ دّاخلي خاص به، ومن وسائل و امكانيات دفاعية ذاتية هو بطبيعته آلية تدفع نحو المحافظة والاستقرار ولا تطيق التغيير و التجديد، و هو ما ينبغي أن يأخذه المجدّد أو المصلح بعين الاعتبار. وكسرا لهذه الهيمنة الداخلية للتنظيم أو إن شئتم للحزب فلابد من اللجوء و الاستعانة بالضغط الخارجي على التنظيم للحدّ من هيمنته و ضمان شيء من التوازن والتطور. فممارسة الضغط الخارجي على التنظيم متى كان مُقننا و مُنضبطا هو شرط من شروط العمل الحزبي العصري،و عامل من عوامل التطور. فالإصلاح الدّاخلي ،حتى و لو كان شأنا حزبيا خاصا،إذا أردناه أن يكون فعالا و سريعا ينبغي أن يمر أيضا، إلى جانب التوعية و الحوار الداخلي ، بالضغط والتحديات الخارجية. فالآلة التنظيمية لا تستجيب بسهولة للنداءات الإصلاحية الدّاخلية مهما كانت هذه النداءات قوية ومشروعة،كما يتوهم البعض، بقدر ما تستجيب وتخشى الضغط الخارجي وخاصة بالنسبة لحركة سياسية قاعدتها الشعبية عريضة ، كما هو الحال بالنسبة لحركتنا سابقا. فالإصلاح السياسي لم يكن شأنا حزبيا ضيّقا و حسب، وإنما هو شأن وطنيّ جامع قبل كل شيء، عليه أن يجعل المصلحة العامة والعليا فوق كل اعتبار،و ما الإصلاح التنظيمي و الحزبي إلا مدخلا لتحقيق هذه المصلحة الأشمل ، و كُلَّما كانت المصلحة أعَمُّ تكون أولى بالاعتبار و التقدير. فترتيب البيت الدّاخلي ما يزيده الضغط الخارجي، بشرط ألاّ نسقط في عمليات جلد للذّات،إلا ترتيبا على ترتيب وجمالا على جمال، ألا ترى إلى الواحد منّا عندما يستضيف أحدا فإنّ انتباهه لترتيب بيته و نظافته و جماليته يتضاعف وقد يكون ذلك بدافع الحياء أحيانا أو بدافع احترام الضيف أحيانا أخري أو بدافع كليهما، المهم هو أن النتيجة النهائية لهذا النوع من الضغط لن تكون إلاّ خيرا أن شاء الله تعالى. هذا بالنسبة للضّيف والصّديق، فما بالك بالمنافس؟ لا شك أن الحفاظ على وحدة التنظيم و تلاحم صفوفه ، هي شرط آخر من شروط الإصلاح ، لكن دون أن يكون ذلك على حساب الحريات، التي هي مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية،أو على حساب وأد الإضافات التجديدية لأن ذلك صمام تطورنا و تقدمنا وازدهارنا، بل وحياتنا الحرّة التي نحن بها جديرون. فالاستعانة بجُرْعة من الضغط الخارجي لفرض الإصلاحات المطلوبة، و خاصة إذا ما أعيتنا الوسائل الداخلية ،هي أمر مطلوب وليست عيبا كما يريد أن يصَّور لنا ذلك أصحاب التنظيمات الاستبدادية و القهريّة بكل أشكالها و ألوانها. وفي هذا المقام يحضرني مثال الزعيمة الفرنسية مُرشحة الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة (سيقولان روايال )،( و المقارنة هنا هي في وجه دون وجه أو في بُعد دون سائر الأبعاد، وهو ما يعني أن المقارنة لا تتجاوز نقطة الاستعانة بالضغط الخارجي )، التّي ما كانت لتفرض نفسها على الحزب و باروناته الرّسمية والطّبيعية حتّى و لو كانت هي الأكفأ و الأولى لو لم تستعن على الآلة التنظيمية بالمناضلين القاعديين والرأي العام عن طريق "ديمقراطية المُشاركة" (1)الشعبية و المدنيّة و غير ذلك من الأشكال النضاليّة النَّوعية. فبفضل هذه الآلية الدّيمقراطيّة انتصرت هذه الأخيرة على رموز مُختلف اتجاهات الحزب الإشتراكي،ابتداء من( دومينيك ستروس كان) الذي تحالف معه الوزير الأوّل والمرشح السابق للانتخابات الرئاسية للحزب لسنة 2002م(ليونال جوسبان) وأنصاره ،وانتهاء ب(لوران فابيس) ومن تحالف معه من مثل (جون ليك ميلونشون) إلى (هونري إيمانيالي) زعيمي أقصى اليسار في الحزب الإشتراكي(2)، انتصارا ساحقا في انتخابات أولية داخل أنصار الحزب وأتباعه . وفي رأي الخاص ما كانت (روايال) لتخسر الانتخابات الرئاسية لولا خيانة زعماء الحزب لها . و بناء على ما تقدم، واستفادة من بعض التجارب و الشواهد، فقد نادينا بالشفافية والعلنية والضغط المدني و السّلْمي بكل أشكاله و ألوانه. و نادينا،أيضا، بالقطع النِّهائي مع الازدواجية في الخطاب و الممارسة على المستوى الدّاخلي و الخارجي مهما كانت الدّواعي و الأسباب. نادينا بذلك كمنهج ثابت في التغيير و الإصلاح، و ليس كتكتيك ظرفي أو مناورة عابرة لتحقيق بعض المكاسب السياسية العابرة . وانطلاقا من هذه المقدمة فلا ينبغي أن يخيفنا أبدا الضغط الخارجي بل إنّ ذلك سيُقوينا ويُكسبنا المناعة و القدرة على التطور الدائم والمستمر،إذا ما تعاملنا معه بهذه الخلفية ، واعتبرناه مقدمة من مقدمات النجاح والتألق.
4) إنّ من شروط النجاح،أيضا ،اختيار الوقت المناسب الذي يساعد ويُهيء لهذا النَّجاح، وكذلك هو الشأن بالنسبة للإصلاح. وأعتقد أنّ ما تفضلتم بطرحه و عرضه ،لو قمتم به في فترة سابقة لكان أجدى وأنفع ، ولأنقذتم عددا مهما من أخلص إخواننا للمشروع من التهميش والاستقالة.
5) الإصلاح الحقيقي أن يكون خالصا لله ومرتبطا أساسا بالأفكار و المشاريع وليس بالأجندات التنظيمية الظرفية أو الأشخاص مهما كان وزن هؤلاء الأشخاص. لا ننكرُ ما لنوعية الأفراد من وزن في إحداث التغيير ولكن ليس إلى درجة أن يُصبح الشخص هو الفكرة و الفكرة هي الشخص. هذا ما ينبغي أن نقاومه جميعا في المستقبل لأن أمتنا في حاجة إلى فكر أصلاحي نهضوي مؤسس، وليست في حاجة ماسة إلى هذه الحدِّ، كما يعكس ذلك سلوكنا وخطابنا وخاصة المقروء منه، إلى ولاية فقيه من الفقهاء مهما كان هذا الفقيه على درجة من العلم والتّقوى. هذا البعد في عملية الإصلاح لا بد من الانتباه إليه وإلاّ فإنّ احتمال تحول عملية الإصلاح على المدى البعيد إلى فكر استبدادي تبقى قائمة، حفظنا الله وإياكم من كل ظالم غاشم مستبد لا يرعى لله ولا لرسوله ولا للمؤمنين ذمة ولا حرمة. لهذه الأسباب وغيرها أوجه عتابي لكم ما دمتم تشاركوننا الرأي في ضرورة الإصلاح والحال أننا أعضاء في نفس الحركة على قدم المساواة على الأقل من الناحية النظرية. فلماذا لم تقفوا إلى جانبنا وتدافعوا عن حقنا في عرض أراء نا بشكل يتوفر فيه قدر من العدل و تكافوء الفرص. ولنفرض أننا ،كما تُرَّوِجُون، كُنّا متشنجين و متوترين و متهورين، فهل يكفي ذلك مبررا لتستخفوا بنا وأنتم تشهدون عملية إقصاءنا و تهميشنا،لا لكبير ذنب اقترفناه ،اللهم إلاّ بعض المناوشات التي كان مبعثها ردود أفعال طائشة والتي لم يسلم منها أي طرف من الأطراف سواء كان قاعديا أم قياديا؟ لماذا لم تساهموا في ترشيد أفكارنا وسلوكنا وتأخذوا بأيدينا وتعينوننا على الحقّ ما دمتم تؤمنون بنفس الأفكار؟ لماذا لم تدخلوا على الخط ،فنُسّلم لكم،حينئذ، المبادرة و نحن على غاية السرور لأن الذّي كان يهمنا هو الإصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه لا غير؟ والذي نفسي بيده لو كنت مكانكم لدافعت عن حقكم في إبداء رأيكم على قدم المساواة مع غيركم ما استطعت إلى ذلك سبيلا. ومع كل هذا فسأساندكم في مسعاكم بدون تحفظ و لا تردد.
ولقائل منكم أن يقول : (ومن طلب منك أن تؤيد هذه المبادرة أو تباركها أو تنخرط فيها؟). وعندها أجيب: ( أنا اليوم رجل أشعر بقدر كبير من الحرّية والرّاحة النّفسية رغم التجميد المسلط عليّ في الخفاء،وأحمد الله على كل ذلك، وما هذا الذي عبرت عنه إلاّ جزءا بسيطا من حقي في المصارحة والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم و كما يقول الرّسول صلى الله عليه و سلم :( لا تُحقرّن من المعروف شيئا) سواء كان صادرا عني أو من إخواني ( ولو أن تلق أخاك بوجه طلق أو كما قال صلى الله عليه و سلم).
وفي الأخير،لا أ ُخفيكم سعادتي بهذا التقدم العلمي الرهيب وخاصة في مجال التواصل والإعلامية الذّي بفضله أصبح الإنسان قادرا أن يُبلغ صوته عاليا وهو في بيته ،فلا يستطيع مخالفوه في الرّأي أن يحجبوا عن النّاس رأيه ولو كان مخالفا لما هو سائد كما كان الحال في الثمانينات من القرن الماضي. والعولمة،إن كان لها من حسنات،فهي لا تتجاوز هذا المجال. هذا نصيبي من المصارحة والنصيحة، إخوة الدرب المبارك، إن أحببتم أضيفوه إلى مصارحتكم و مناصحتكم وإن أبيتم فاطرحوه أرضا والأيّام دول،فلا سلطان لي عليكم وإنّما أنا مُذكِر . إخوة الدِّين والوطن أسأل الله أن ينفع بكم وأن يسخركم لخدمة دينه، ويُخلص أعمالنا جميعا لوجهه الكريم، أنه سميع مجيب
أخوكم مصطفى عبدالله ونيسي
ليلة الإربعاء 4جوان2008
جَِدّدْ أيّامك و زيّنها(2): مصطفى عبدالله ونيسي
مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 30 - 03 - 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
إن إرادة الحياة الكريمة اللائقة بنا، كمُكلفين ومُسْتَخلَفِينعن الله في عمارة الأرض ، تفرض علينا كدحا نحو الله مستمرا ، وتزكية للنفس وجهادا ميدانيّا متواصلا. ومن أسمى سمات التجديد ومظاهر الزينة:
تقوى الله تعالى والتوكل عليه :
يقول الله تعالى : ( بلى مَنْ أوفى بعهده واتَّقى فإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقِينَ )(1) فتقوى الله شرط أساسي من شروط السّعادة في الدنيا و النجاة في الآخرة . فلا خلاف بين علماء الإسلام ،الأولين و الآخرين ، أن تقوى الله هي أصل كل نجاح وأساس كل تجديد وعماد كل زينة مشروعة. وهذا ما تؤكده نصوص الوحي المعصوم قطعيّ الدّلالة و الورود، كتاب الله و سنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم بشكل واضح وصريح. فيا مَنْ أردت الإصلاح و تزكية النفس،إن كنتَ جادًّا مع نفسك و مخلصا مع ربّكَ فلا تتمنى على الله الأماني وأنت قابع في بيتك و مستقيل من الحياة لا تحرك ساكنا ولا تسعي في الأرض بالعمارة و الإصلاح و ترسيخ المعروف وتغيير المنكر. فلا تترك أيّامك المعدودة تمرُّ أمام ناظِرَيْكَ مرَّ السّحاب وأنت ساه وغافل دون أن تكسب فيها نصيبا وافرا من تقوى الله تعالى. هل لاعلمت أنّ رسول الله قد سُئل عن أكثر ما يُدخِلُ النّاس الجنّة ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( تقوى الله و حُسْن ُ الخُلُقُ )(2). فتقوى الله عِزّة ٌ وكرامة ٌ و رِفْعَة ٌ عِندَ الله ( ولله العِزَّة ُ ولرسولِهِ وللمؤمنين ) . فهي فلاح في الدُّنيا و نجاة في الآخرة. يقول تعالى في حقِّ المتقّين ( ثُمَّ نُنَّجِي الّذين اتّقوا )، وقد فسّر رسول الله هذه الآية بقوله :( مِنْ شُبُهاتِ الدّنيا وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة ). وعن أبي ذرٍّ قال: قُلْتُ يا رسول الله أوصني فقال صلى الله عليه و سلّم : ( أوصيك بتقوى الله فإنّها رأسُ الأمر كلّه ) (3) و قال الواحدي : ( أي يُسَهِّلْ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيا و الآخِرَةِ ) . قال رسول الله صلي الله عليه و سلم ( أيُّهَا النّاسُ اتخذوا تقوى الله تجارة يأتيكم الرّزقُ بلا بضاعة و لا تجارة ) ثُمَّ قَرأ ( و مَنْ يتّقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (4) فيُبارِكْ لهُ في رزقه( 5) و ينميه. و قال الجوزي رحمه الله : ( كان شيخ يدور في المجالس و يقولُ : مَنْ سرَّهُ أن تدوم له العافية فليتَّقِ الله ربَّهُ )( 6)
فالتقوى تتضمن أصول الإسلام و قواعد الدّين . يقول الله تعالى: ( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدًى للمتقين )(7)
ويقول سبحانه: (وسارعوا إلى مغفِرةٍ مِنْ ربِّكمْ و جنَّة عَرْضُهَا السّموات والأرض أعِدَّتْ للمُتَّقِينَ )(8)
فتقوى الله أصل عظيم من أصول الإيمان (فالله أحقّ ُ أنْ تخشَوْهُ إن كُنتم مؤمنين )(9)
و هي أصل عظيم من أصول الإخلاص و التجرد لله ربِّ العالمين (قُلْ إنَّ صَلاَتِي و نُسُكِي و مَحْيَايَ و مَمَاتِي لله ربِّ العالمين لا شريك له و بذلكَ أمِرْتُ وأنَا أوّلُ المسلمينَ )(10)
وعن أبي موسى الأشعري قال : سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم .....الرّجُلُ يُقَاتِلُ حميَّة ً ، و يقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال عليه الصلاة و السّلام : ( مَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )(11 )
وهي أصل عظيم من أصول تزكية النّفس والأخلاق: ( إنّ الّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا و لا تحزنوا، وابشروا بالجنّةِ التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة . ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نُزُلا من غَفورٍ رحيمٍ )(12)
وعن أبي ذر بن جندب، وأبي عبدالرحمن بن معاذ رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السَّيئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلقٍٍ حسنٍ )(13) . و عن سفيان بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله قُلْ في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك.قال صلى عليه الصلاة و السّلام :( قل: آمنتُ بالله ثم استقم )(14)
وتقوى الله أصل عظيم من أصول السلوك و العمل الصالح: (مَنْ عَمِلَ صالحا من ذكر وأنثى و هو مؤمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة ً طَيِّبَةً)(15) ويقول سبحانه (والّذين اهتدوا زادهم هُدًى و آتاهم تقواهم)(16)
وهي أصل عظيم من أصول الشجاعة والإقدام: ( الّذين قال لهُم النّاسُ إنَّ النَّاسَ قدْ جَمَعُوا لَكُم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالُوا حسبنا الله و نعم الوكيل )(17)
فالإسلام عندما تقوى الله عزَّ و جل دون سواه في النفس البشريّة كان قد عالج قضية الجبن والخوف علاجا جذريّا. فالنّاسُ لا يملكون موتا و لا حياة . فالحياة يمنحها الله و يسلبها الله متى شاء وكيفما شاء و لا أحد يملك أن يُعَقِّبَ على حكمه تعالى(و ما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذنه كتابا مُؤجَّلا)(18)
وللتقو ى تجليات كثيرة ،لا يحصيها عدّا إلا الله سبحانه،تشمل حياتنا في الدنيا والآخرة، وتمسح كل مساحات عملنا ونشاطنا الروحي و الزّمني،فالعدل بين النّاس مثلا هو من التقوى( اعدلوا هو أقرب للتقوى )(19)، والعفو عن النّاس من التقوى (وأن تعفوا أقرب للتقوى)( 20) ، والوفاء بالعهد من التقوى (بلى من أوفى بعهده و اتقى فإنّ الله يحبُّ المتقين )(21 ). فتقوى الله تتناول العقائد، والعبادات، والآداب و سائر الأعمال الصالحة. ولمّا كانت التقوى جماع كل برٍّ وأصل كل خير سواء للأفراد أو الجماعات أو الشعوب، كانت خير ما يتسلّح به المؤمن ويستعين في حياته في حياته القصيرة ( و تزوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التقوى )(22). يقول تعالى (و لو أنّ أهل القرى آمنوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض )(23). وممّا لا شك فيه أنه من أعظم مظاهر التقوى و تجليّاتها في حياة الفرد المؤمن بالله الإيمان بقضاء الله و قدره وشكره و التوكل عليه سبحانه، وهذا ما سنحاول توضيحه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
الثلاثاء 30مارس2010 مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
الهوامش:
1 آل عمران /76
2 رواه الترمذي و قال حديث حسن صحيح
3 رواه ابن حبّان في صحيحه و قال صحيح الإسناد
4 الطلاق/2 3
5 أبو عبدالله الوصابي الحبشي : البركة في فضل السعي و الحركة ص 71
6 نفس المرجع ص 71
7 البقرة 1 2
8 آل عمران/133
9 التوبة /13
10 الأنعام /162 163
11 البخاري و مسلم
12 فصلت / 30 31 32
13 رواه الترمذي و قال حديث حسن و في بعض النسخ حسن صحيح
14 رواه مسلم
15 النحل/
16 محمد /17
17 و 18 آل عمران 172 و 145
19 المائدة / 8
20 البقرة / 238
21 آل عمران 76
22) البقرة / 197
23) الأعراف / 96
مِن رموز مقاومة المستعمر الفرنسي:المجاهد البطل محمد قرفة رحمه الله 2/2
مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 10 - 03 - 2010
القبض على البطل في مطماطة :
عندما لم يستمع إلى طلب محمد قرفة ، لا ممثل السلطة في بلدة بني خداش، و لا عامل الولاية ، عزم هذا الأخير على الثورة من جديد، ولكن هذه المرة ضد ممثلي السلطة الجديدة التي يتزعمها الحبيب بورقيبة وأنصاره.
خرج محمد قرفة صوب مطماطة يدعو أصدقاءه للعودة للثورة ، فأ لقي عليه القبض و سُجِن بمطماطةفي صيف 1956. كان الطقس شديد الحرارة، و كان السبيل الوحيد للخلاص من السجن هو أن يستغل المجاهد محمد قرفة ذكاءه و فطنته.
الفرار من السجن:
كان محمد قرفة يُحضى بتقدير كبير من طرف كل من يعرفه، بما في ذلك حرّاس سجنه نظرا لشهرته الواسعة وماضيه المشرف على درب المقاومة المسلحة للمستعمر الفرنسي. التمس محمد قرفة من سجانيه أن يسمحوا له بالخروج إلى بهو السجن للتنعم بالهواء، وذلك لأن الغرفة التي يقبع بها كان حرّها شديدا ، فاستجاب سجّانوه لطلبه، وقد كانوا جميعا يتسامرون. وكان محمد قرفة قد أعد الخطّة للفرار من السجن مُنذ الزوال، إذ طلب من سجانيه لُمجة (1) حارّة ، فلبوا له طلبه . ولمّا طابت سهرة المتسامرين، تظاهر هذا الأخير بوجع شديد يمزق أمعاءه بسب الفلفل الحّار الّذي احتوت عليه تلك اللّمجة . فطلب السّماح له بالخروج لقضاء الحاجة. فسُمِحَ له بالخروج ولم يطل غيابه وعاد لمواصلة سمره مع سجّانيه، و ما هي إلاّ لحظات حتى تظاهر بتضاعف أوجاعه من جديد ، وطلب الخروج لقضاء الحاجة مرة ثانية، فسُمح له. و أطال السجين غيابه هذه المرة أكثر من غيابه المرة الأولى بقليل، ثم عاد. و يتظاهر السجين للمرة الثالثة بتضاعف الأوجاع ويطلب الخروج لقضاء الحاجة كالعادة، إلا أنّه في هذه المرة لم يعد إلى سجانيه مستغلا سذاجتهم وطيبتهم، ليدخل ظلام الليل كما يقال لا يلوي على شيء . وكان انتظار حرّاسه هذه المرّة لا حدود له.
وخرجت السّلطة على عجل من أمرها لتظفر به قبل فوات الأوان، إلا أنّهم لم يظفروا بشيء هذه المرّة.
أمّا المجاهد محمد قرفة فقد اتصل بصديقه خليفة بن خليفة المحضاوي القاطن بمنطقة عزيزة قرب معتمدية بني خداش ، فأخذ منه بندقية و جرابا من الذخيرة و وهي رداء خارجي من الصوف ثم اتجه نحو الجارة الشرقية لبلادنا تونس ليتصل بالزعيم الآخر صالح بن يوسف المقيم بطرابلس.
و هناك التقى الرّجلان ، فوعد صالح بن يوسف هذا الأخير بالدّعم المادّي و الأدبي والعسكري في صورة انتشار الثورة و توسعها .
عودة محمد القرفة لتونس ليقود الثورة من جديد:
عاد هذا الأخير لتونس وقد جمع حوله بعض الثّوار، فدعاه ممثل السّلطة بالعدول عن عدائه للسّلطة عن طريق محاولة أولى قام بها عبدالله التُركي، ولكن المحاولة باءت بالفشل الذ ّريع . وعندها عقد معتمد الجهة آنذاك محمّد الصّغير الرّي اجتماعا بكبار العروش حضرة قرابة 14 نفرا من بينهم عمار بن عيسى البارودي و علي بن خليفة المحضاوي و خليفة بن خليفة وطلب منهم أن يجدوا حلا للقضاء على تمرد محمد قرفة . و بعد مناقشات طويلة و مُضنية نظر أحد الحاضرين إلى خليفة بن خليفة و قال له : ( هذا صديقك وليس هناك من هو قادر على إقناعه بالعدول عن ثورته مثلك )
وذات ليلة بينما محمد الرّي نائما بمنزله طرق بابه خليفة بن خليفة ليُعلمه أنّه قد استقدم محمّد قرفة ليفاوضه، فاتجه محمد الرّي إلى المكان الواقع بشعبة حمزة صحبة خليفة بن خليفة ، فوجد فريقا من الثّوار شاهري السّلاح، وهو مظهر قد استاء منه ممثل السّلطة . والتمس هذا الأخير من محمد قرفة العدول عن ثورته والاستسلام واعدا إيّاه بالسّلامة و الأمن ، إلاّ أنّ محمد قرفة أصرّ على مواصلة ثورته قائلا : ( لن ألقِي سلاحي ما دام ذلك الخائن مشيرا إلى مصباح الجربوع يحكم البلاد )
القبض على محمد قرفة :
لقد كانت عمليّة القبض على محمد قرفة من أبشع الدّسائس الّتي دُبِّرَتْ على تراب منطقة الحوايا . فالسّلطة لمّا استنفذت الوسائل السّلميّة في ثنيّ الثائر عن ثورته عمدت إلى الخيانة و الغدر، فكانت الطريقة التي اعتُمِدت في القبض عليه أكسبته تعاطفا متزايدا مِنْ قِبَلِ أجيال متعاقبة من أبناء المنطقة . فكيف يا تُرى وقع البطل في حبال السلطة الجديدة ؟
يقول ممثل السلطة محمد الرّي واصفا الطريقة الدنيئة التي اعتمدها للقبض على المجاهد محمد قرفة : ( بعد مقابلتي له و رفضه الاستجابة لطلبي ، كانت الخطّة الثانيّة للإطاحة به جاهزة .) وتفاصيل العملية أنّ ممثل السّلطة هذا كلّف أحد أصدقاء محمّد قرفة لتنفيذ الخطّة ، فدعا هذا الأخير الثائر لتناول العشاء عنده بعين تانوت للتباحث معه في مطالب الثّورة . ويقول ( الرّي) وحاول المُضّيِِفُ القضاء على ضَيْفِهِ فأطْلَقَ عليه النّارَ لمّا كان قابعا بالمغارة التي قد
أ ُسْتُضِيف فيها إلاّ أنّ الطّلْقَة َ لم تصبهُ إلاّ بجرح بسيط في أنفه ، وعندها عمد محمد قرفة فورا لإطفاء المصباح الّذي كان يُنِيرُ المكان. وعندئذ أوهم الْمُضَيِّفُ البطل محمد قرفة بأنّه محاصر من كلِّ جهة وأخذ يتظاهر بإصدار أوامره بالحصار حتّى وصلت القُوّة ُ العسكريّة التي رافقتها ( المتحدث ممثل السلطة) مصحوبا بالشيخ محمد المهداوي و محمود الجباهي.
وعند وصول هذه القوات إلى مكان الحادثة، طلب ممثل السلطة من محمد قرفة الخروف ، ولكن هذا الأخير رفض . وعندها أمر (الرّي ) الحاضرين بجمع جريد النّخل ليحرقه في مدخل المغارة. وعندها خرج محمد قرفة رافعا يديه واتجه إلى محمّد الرّي قائل: ( ما نَدمت عليه أنِّي لم أفتَكْ بك حين تقابلنا سابقا، لكنّي لا أعرف الخيانة و لم أتعلّم الغدر )
محاكمة محمّد قرفة :
عُرِض محمد قرفة على ما يُسمّى بمحكمة الشّعب ، وكانت محاكمته الخصم و الحَكمُ فيها واحد لا ثالث لهما .
حُوكِمَ مِنْ أجْلِ اتصاله بصالح بن يوسف في طرابلس و تسلمّه مبلغ 350 ألف فرنك لتكوين عصابات للتمرد على السلطة القائمة، وحُوكم أيضا من أجل رسائل حُجِزت مع المتهم بن جبيبة مُوجّهة إليه من صالح بن يوسف يطالبه في الإستمرار في التمرد.
و يبدو أنّ محمد قرفة لُفِقَتْ لَهُ تُهْمَة ُ قتل (إبراهيم الهمّامِي) التي أنكرها محمد قرفة بشدة . لا شك أن إبراهيم الهمامي قُتِلَ من طرف ثُوّار اليوسفية لإظهاره الشّماتة بقتلاهم بمعركة ( مقرّ ) و ( مسالخ ) إلاّ أنّه لم يثبت أنّ القائم بعملية القتل محمد قرفة .
وحُكم عليه رحمه الله بالإعدام شنقا، و نُفِذ َ فيه الحكم ، ولم تشفع له بطولاته و نضالاته ضد المستعمر الغاشم و هو القائل : (لَنْ أسَلِّمَ سِلاحِي و بورقيبة يقبع في المنفى ).
و دون أن ننحاز لهذا الفريق أو ذاك ، يقول مؤرخ الحركة الوطنية في الجهة: ( مهما كان حجم الخطر الذي يمثله هذا الرّجل في عدائه للبورقيبية كمشروع دولة ناشئة، فإنّ ذلك لا يبرر أن تُلصَق به تهمة ارتكاب جريمة اقترفها غيره، ويُحكم عليه بالإعدام ، ويقع تنفيذ الحكم فيه دون اعتبار ما قدمه للوطن من خدمات)(1)
مِنْ أقْوالِه الخالدة :
عندما سُئِلَ محمد قرفة أثناء جلسة محاكمته عن أسباب تمرده قال: (لقد قُمتُ بأعمال كبيرة ، وكافحت كفاحا شديدا ضدّ فرنسا في سنة 1952 ولو اعتقلتني لقطعتني إربا إربا.
لقد كنتُ أمْكُثُ بدون أكلٍ مدّة 12 يوما، ولا أسمح لنفسي بنهب إخواني التونسيين وأكتفي بأكل النّباتِ . )
و يقول ُ أيضا : ( أنا كما ترون جاهل لا أحسِن ُ القراءة ، وكانوا يقولون لنا أنّ فرنسا لم تعطنا الاستقلال بعد، و التراب العسكري سيبقى لها، و يجب العودة إلى الكفاح فعدنا )
و حول ظروف القبض عليه وما لقيه من عذاب من أجل انتزاع اعترافات أكره عليها تحت وطأة العذاب يقول : ( كنت ذات ليلة أتناول العشاء إذ أطلقت علينا طلقات ناريّة ، فأصِبْتُ في أنفي واعتقلوني. و بقيت شهرا و25يوما تحت الضّربِ و العذاب، و أنا موثوق بالحبال، وأخيرا قلت لهم : أكتبوا ما تريدون وأمام الله نتقابل )(2) .
دور جيش التحرير في الإسراع بمنح تونس استقلالها التّام:
ولئن كانت ضحايا حروب جيش التحرير مرتفعة، إلا ّ أنّها كانت وسيلة ضغط على فرنسا لتمنح
تونس دون تردد استقلالها التام . هذا ما ترجمت عنه الأشعار الشعبية التي كانت تُمجد ُ أبطال جيش التحرير الوطني و منها هذه المقطوعة ل(نصر عويدات ) التي كانت سببا لسجنه سنة 1957:
مَهْدِي وبوعْبِدِي و محضَاوي (3) اللِّجَابُوا لِسْتِقْلاَلْ
كُلْ وَاحِدْ بِشَجَاعَة َ رَاوِي مْنِينْ شَدّ ُوا لَجْبَالْ
عَمْ سِتَّه طَلْعَت ْ هَا الثَّوْرَه اللِّمَاتَحْمِلْشِي الذ ّ ُلْ
طَلَعْ فِيهَا الرَّايس قَرْعُوا لَهْ صَامِدْ لِلْمُحْتَلْ
اللِّمَا يَعْرِفشْ ، انْسَمِّهُولَه ْ سِي قَرْفَهْ مْغَوَّلْ
هَا القَايَدْ نَعْطِيكَ انْزُولَهْ اللِّشِبْحَه يَخْتَلْ
مَعَاهْ جِيشْ اللِّحَبْ المُولَه جَابوا الاستقلال الكُلْ
خَلُّوا تُونِسْ صِبْحَتْ دُولَه تْنَوَّرْ كُلْ عْمَلْ (4)
و في مقطع آخر يتغنى الشاعر (فرح دبوبه) قائد إحدى فِرق أغْبُنْتُنْ الشهيرة عند أهل الجنوب ببطولة محمد قرفة، فيقول:
محمد قَرفَه وِمْعَاهْ جْمَاعَة وقَالُوا انْمُوتُوا عَلَى عَلَم البِلا َدْ
اِسْخَنْ الدَّمْ رَفْعَتْهُمْ شجَاعة وَقَالَّكْ طَبُّوا على الكافر اِقْصَادْ
بالرفَايْ إمْنِينْ ثَبِّتْ أصْبَاعَهْ وَلَّتْ طَايْحَهْ كَالْجَرَاد
رحم الله تعالى شهداءنا الأبرار الذين ضحوا بالغالي و النفيس من أجل أن تستقل تونس وتصبح بلدا ذا سيادة ، فأين نقف اليوم ، نحن جيل الاستقلال من هذا الاستقلال.
الخميس 9/3/2010
مصطفى عبدالله ونيسي/ باريس
1)عمار السوفي : عواصف الاستقلال ص214
2) الصباح 3جويلية 1957ص2و3العدد1724
3) مهدي، و بوعبيدي و محضاوي،هذه عروش من الحوايا شارك عدد من أبناءها في الثورة على المستعمر الفرنسي
4) ملاحظة لمن أراد أن يقرأ الشعر الشعبي ، فإن قاعدة العرب لا تبدأ ُ بساكن لا تنطبق عليه، فأعلب الكلمات تبدأ بساكن، تلك هي أحكام اللغة الدارجة عند أغلب أهل الجنوب تقريبا.
الإسلام السّياسي بين الأمس و اليوم (الحلقة الأولى) مصطفى عبدالله ونيسي
مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 24 - 04 - 2012
تقديم
إن إلغاء نظام الخلافة سنة 1924م وتأسيس جمهورية تركيا، كنظام قومي علماني عن طريق كمال أتاتورك ، هو في الحقيقة شكل من أشكال القضاء على ما يعرف اليوم بالإسلام السياسي. و مع عودة التيارات الإسلامية إلى واجهة الأحداث و خاصة منها السّياسية عبر بوابة ما يعرف بثورات الرّبيع العربي هو اعتراف ضمني من طرف القوى الكبرى المهيمنة في العالم مثل الولايات المتحدة الأميريكيّة بهذه التيّارات قصد ترويضها و احتوائها بشكل من الأشكال بشرط أن لا تتجاوز هذه التّيارات الحدود المرسومة لها مُسبّقا ، خاصة بعد أن استنفذت الأنظمة الديكتاتورية ذات المرجعيّة العلمانيّة، سواء منها العسكريّة أو البوليسيّة، أغراضها و أصبحت فاقدة لكل شرعيّة يمكن أن تستند إليها في سياسة شعوبها. فهذه الأنظمة الفوقيّة المنصبة على الشعوب بقوة الحديد و النّار أصبحت عبئا ثقيلا على النّظام العالمي الذي لا يفهم إلاّ لغة المصالح، ولم تعد هذه الأنظمة بعد أن تورطت في قمع شعوبها الحليف المناسب لقوى المهيمنة في عالمنا المعاصر. و نتيجة لسحب الثقة و الحصانة عن هذه الأنظمة في بلادنا العربيّة و الإسلامية بدأ تفكير هذه القوى الكبرى و خاصة منها الولايات المتحدة يتجه نحو مغازلة القوى الإسلامية الصاعدة لتكون البديل المحتمل بشرط أن تعتمد هذه التيّارات الإسلامية الدّيمقراطية كنظام سياسي و لا حرج عليها فيما عدا ذلك أن تتمسك ببعض المظاهر الإسلاميّة من مثل التمسك بالبند الأول من دستورالاستقلال عندنا في تونس ولكن دون اعتماد الشريعة كمرجع أوّل و أساسي للتشريع و إدارة الشأن العام. و ما يعنيني في هذه الدّراسة هو أن هذه التيّارات الإسلامية و السياسيّة الصّاعدة ليست جديدة و إنّما هي قديمة قدم هذه الحضارة الإسلامية. فهي تيارات لها سيكولوجياتها و لها أيضا ثقافات سيّاسيّة و عقائدية متعدّدة تلقّاها الأحفاد عن الأجداد و تربوا عليها و هي حاضرة في أذهانهم و مشاعرهم وسلوكهم اليومي و مظاهر أفراحهم و أتراحهم... و هي ثقافة اختلط فيها الحقّ بالعادات ، فكان منها ما هو ديني ملزم لنا باعتبارنا مسلمين، ولكن أغلب هذه الثقافة، ولئن كان أصلها دينيّا، فهي صادرة عن اجتهاد بشري ولنقل تاريخي ينبغي أن يطاله التقييم و النّقد الموضوعي لنميز النّافع منه من الضّار. ففهم هذه التيّارات الإسلامية بمختلف عناوينها لا يمكن تحققه دون الرّجوع إلى مصادر التّلقي عندها منذ الصدر الأول للإسلام و معرفة كيف نشأت و في إي اتجاه تطورت هذه الاتجاهات العقائدية و السيّاسيّة حتّى يومنا هذا؟
و خدمة للقارئ و ترشيدا للمناضل السّياسي المسئول و الصادق نقدّم هذه الخلاصات في الفكر العقائدي و السيّاسي لأهم الإتجاهات العقائدية و السيّاسيّة التي تركت بصماتها في فكرنا السياسي و العقائدي . هي خلاصات تاريخية عامّة نضعها على ذمّة القارئ العادي ومن لا وقت له من المناضلين و المهتمين بالفكر السيّاسي الإسلامي لتنيره وتعينه على فهم واقعه و وصل مستقبله بماضيه، وهذا جوهر ما نسميّه بأهميّة دراسة التّاريخ الإسلامي و خاصّة منه الفكري و السيّاسي ليعرف النّاشط و المفكر على أي أرض يسير. فدراسة التّاريخ بعقليّة نقديّة قصد الإصلاح ذو أهميّة قصوى ولكنّ بشرط أن لا نبقى أسرى هذا التّاريخ نلوكه دون أن نتجاوزه للإبداع و التأسيس و البناء عليه. فهذه الدّراسة التاريخية ليس المقصود بها المختصين و إنّما المقصود بها أساسا هم النّشطاء من السّياسيين و الحقوقيين و الدّعاة و كلّ من لا وقت له على رسم نهج يجمع بين الأصالة و مكاسب الحَداثة دون السّقوط في الماضويّة التّاريخانية، بعبارة المفكر المغربي محمّد عابد الجابري،كما تفعل بعض التّيارات السّلفية أو الاستيلاب الفكري و جلد الذّات كما يفعل بعض المتطرفين من العلمانيين عندنا. فالتيارات الإسلامية، و هي ما يعرف تقريبا بالفرق الإسلاميّة (1)قديما، هي ظاهرة تاريخيّة ، ينبغي دراستها بموضوعيّة ، لنقف عن مواطن الخطأ و مفاصل الاستبداد فيها فنتبرأ من كلّ ذلك من دون أي حرج، ونتبيّن مواطن الحُسْن فيها و الخير فنستصحبه في تجربتنا المعاصرة دون إسقاط فوقي أو إهمال لمقتضيات ظروفناالجديدة و المعاصرة.
باريس24/04/2012
1) أفضل استعمال تيار أو مدرسة في الفكر السّياسي و العقائدي بدلا من استعمال مصطلح فرقة لأن ذلك لا يستقيم بالنسبة لي علميا، فالمعتزلة مدرسة في الفكر الإسلامي، وكذلك الشيعة إلى غير ذلك، و ما يمكن أن نطلق عليه فرقة مثلا ( الزّيدية) بالنسبة للمدرسة الشيعية، و الأباضية بالنسبة للخوارج، و النّظامية بالنسبة للمعتزلة، .....
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
الإسلام السّياسي بين الأمس و اليوم أ. مصطفى عبدالله ونيسي
أ مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 29 - 04 - 2012
التّيارات السّياسيّة و العقائديّة في القرون الأولى للإسلام:
المسلمون، كغيرهم من الأمم، قد اختلفوا إلى مذاهب في العقائد و السّياسة و الفقه، و هذا أمر طبيعي لأن هذا الخلاف لم يمسّ جوهر الدّين و لبّه. فهم لم يختلفوا في وحدانيّة الله تعالى ولا في نبّوة محمّد صلى الله عليه و سلّم و لا في أنّ القرآن كلام الله ، و لا في أي شيء ممّا عُدَّ من المعلوم من الدّين بالضرورة...
ومع ذلك، بقدر ما كان الخلاف الفقهي علامة ثراء و خير و بركة و مرونة و تيسير، بقدر ما احتوى الخلاف حول بعض القضايا العقائدية ، وخاصة الخلاف السّياسي على شرّ كبير و خطير لا تزال الأمّة تعاني منه الويلات إلى اليوم. و لذلك روى البخاري عن زينب بنت جحش: أنّها قالت ( استيقظ النّبي صلى الله عليه و سلّم محمّرا وجهه و هو يردّد : لا إله إلاّ الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب)،و هو يشير إلى ما سيجري للمسلمين من خلاف من بعده. و السؤال الّذي يمكن أن يطرحه كلّ مسلم، لماذا اختلف المسلمون بعد النّبي صلى الله عليه و سلّم و قد تركهم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك؟
لقد ترك فيهم ما إن أخذوا به لن يضلّوا أبدا، ترك فيهم كتاب الله و سنّة رسول الله صلى الله عليه و سلّم ، و مع ذلك تنازعوا و تقاتلوا و اعتدى بعضهم على بعض...
والجواب عن هذا السؤال، أنّ أسباب الخلاف كانت كثيرة و من أهمّها و أخطرها الخلاف السّياسي . و لا يفوتني الإشارة إلى أنّ الخلاف الّذي عرفه المسلمون قسمان، خلاف لم يفرق الأمّة و لم يجعل بأسها بينها شديدا ، و خلاف قد فرّق الأمّة و أذهب وحدتها ، و هو كما أشرنا الخلاف السّياسي الّذي دمّر الأمّة وعصف بمصالحها وذهب بهيبتها لاحقا. و هو خلاف، و لئن كان على غاية من الخطورة، طبيعي لا ينبغي تجاهله و عدم الاعتراف به.
و من شروط نجاح الحركات الإسلاميّة اليوم و خاصة منها الطّامحة لحكم البلاد ، ليس هو تجاهل هذا النّوع من الخلاف، و إنّما الحلّ هو دراسة هذه الظاهرة عن قرب و بموضوعيّة و إيجاد الآليات و الوسائل المناسبة لاحتواء هذه الظاهرة من أجل أن يظّل الخلاف سلميّا و بنّاء. فالإسلام، من النّاحية النّظريّة، المنزّل من عند الله تعالى دين عظيم، و هو وحده الكفيل بإنقاذ البشرّية و إخراجها من الظلمات إلى النّور، ولكن المشكلة تتعلّق بالجانب التطبيقي والقراءات المختلفة للإسلام من ناحية التنزيل لتلك القيّم و المبادىء التي بشّر بها الإسلام، و خاصة منها تلك المبادىء الّتي لها علاقة بالشّأن السّياسي العام. فالمسلمون بصفة عامّة لم يختلفوا في الصّدر الأوّل للإسلام في الدّين، إذا ما استثنينا بعض القضايا الفرعية من مثل إثبات صفات الله تعالى و نفيها و قدرة الإنسان بجوار قدرة الله تعالى و غير ذلك من المسائل ، و إنّما كان الخلاف الأساسي بينهم في المجال السّياسي ، فحتّى الخلاف الّذي حدث حول الزّكاة على عهد أبي بكر الّذي أدّى إلى الحروب الّتي سميّت ب ( حروب الرّدة ) لم يكن خلافا دينيّا و إنّما هو خلاف سيّاسي. و الإمام الأشعري يقول : ( إنّ أوّل ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيّهم صلى الله عليه و سلّم اختلافهم في الإمامة... و لم يحدث خلاف غيره في حياة أبي بكر و أيّام عمر، إلى أن ولي عثمان بن عفّان، و أنكر قوم عليه في آخر أيّامه أفعالا...ثمّ بويع علي بن أبي طالب ، فاختلف النّاس في أمره. فمن بين منكر لإمامته. و من بين قاعد عنه. و من بين قائل بإمامته . معتقد لخلافته... ثمّ حدث الاختلاف في أيّام عليّ في أمر طلحة و الزّبير.. و حربهما إيّاه. وفي قتال معاوية إيّاه... )(1)
فكلّ التّيارات الإسلاميّة الّتي نشأت آخر أيّام الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، هي عبارة عن قراءة معيّنة للإسلام و خاصّة في المجال السّياسي، ومن ذلك مسألة الخلافة، و هو ما سنتعرض له في مقالاتنا القادمة.
أ. مصطفى عبدالله ونيسي/باريس في 28/04/2012
الإسلام السّياسي بين الأمس و اليوم مصطفى عبدالله ونيسي
مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 10 - 05 - 2012
منذ الصدر الأول للإسلام انقسم التّيار الشيعي إلى فرق كثيرة، منهم الغلاة الّذين خرجوا بمغالاتهم عن الإسلام ، ومنهم المعتدلون، ومنهم من هم بين هؤلاء و أولئك. وإنارة للقارئ،
نحاول أن نأتي على أهمّ هذه الفرق من خلال ما توّفر لنا من مصادر.
تيّار الغلاة: نذكر منهم :
1 السبئية : و هم أتباع عبدالله بن سبأ اليهودي من أهل ( الحيرة ) و أمّه سوداء ، و لذلك يلّقب ب(ابن السّوداء) أحيانا. كان قد أظهر الإسلام نفاقا. و كان من أشدّ النّاس عداوة لسيّدنا عثمان رضي الله عنه.
عمل على نشر أفكاره و مفاسده بين المسلمين، و كان جوهر ما يدعو إليه هو أنّه وجد في( التّوراة) أنّ لكلّ نبيّ وصيّا، و أنّ عليّا وصيّ محمّد، و أنّه خير الأوصياء كما أنّ محمّدا خير نبيّ. و هو الّذي يقول ( عجبت لمن يقول برجعة المسيح، و لا يقول برجعة محمّد.) ثمّ ذهب إلى أكثر من ذلك عندما قال بألوهيّة عليّ رضي الله عنه. و لقد همّ عليّ بقتله عندما سمع عنه ذلك، ولكنّ عبدالله بن عبّاس نصحه بغير ذلك، قائلا له( إن قتلته اختلف عليك أصحابك، و أنت عازم على العودة لقتال أهل الشّام)، فاستبدل قتله بالنّفي إلى ( المدائن).
ولمّا قُتِلَ عليّ رضي الله عنه، استغّل ابن سبأ محبّة النّاس للإمام و لوعتهم لفقده، فأخذ ينشر حول موته الأكاذيب و الأساطير إضلالا للنّاس و بثّا للفتنة بينهم، زاعما أنّ المقتول لم يكن عليّا، و إنّما كان شيطانا تجسّد للنّاس في صورته، و أنّ عليّا صعد إلى السّماء، كما صعد إليها من قبله عيسى بن مريم عليه السّلام. و قال : ( كما كذبت اليهود و النّصارى في دعواهما قتل عيسى بن مريم، كذلك كذبت الخوارج في دعواها قتل عليّ رضي الله عنه. و إنّما رأت اليهود و النّصارى شخصا مصلوبا شبهوه بعيسى، كذلك القائلون بقتل عليّ رأوا قتيلا يشبه عليّا فظنّوا أنّه عليّ، و قد صعد إلى السّماء، وإنّ الرّعد صوته، والبرق تبسّمه ) ، ومن سمع من السّبئين صوت الرّعد يقول السّلام عليك يا أمير المؤمنين. وقد روى عمر بن شرحبيل أنّ ابن سبأ قيل له : ( إنّ عليّا قد قتل فقال:إنّ جئتمونا بدماغه في صرّة لم نصدق بموته لا يموت حتّى ينزل من السّماء و يملك الأرض بحذافيرها)(1). و من السبئيّة من كان يدّعي أنّ الإله قد حلّ فيه و في الأئمة من بعده، و هو قول يوافق أقوال بعض الدّيانات القديمة الّتي كانت تقول بحلول الآلهة في بعض البشر، و أنّ روح الإله تتناوب الأئمّة إماما بعد إمام ، كما كان يقول المصريون القدماء في الفراعنة. و من السبئية أيضا طائفة كانت تقول عن عليّ : ( إنّ الإله قد تجسّد فيه، و قالوا له (هو أنت الله)، و قد همّ بإحراق هؤلاء كما كنّا قد بيّنا في شأن عبدالله بن سبأ.
2 الغرابيّة : و هي من الغلاة أيضا،وهي فرقة تؤله عليّا، كما فعلت السبئيّة، وهي تكاد تفضّل الإمام عليّا على النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، فزعموا أنّ الرّسالة كان المقصود بها عليّا رضي الله عنه، ولكنّ جبريل أخطأ، فنزل على محمّد صلّى الله عليه و سلّم بدل أن ينزل على عليّ رضي الله عنه. وسُمّيت هذه الفرقة بالغرابيّة لأنّهم قالوا إنّه ( أيّ الإمام) يُشْبه النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم كما يُشْبه الغراب الغراب.
وهو في الحقيقة كلام لا يستوي موضوعيّا و لا علميّا و لا تاريخيّا، وقد أدحضه العلماء و منهم ابن حزم في كتابه ( الفصل في الملل و النّحل) ، إذ يقول : ( و في الواقع إنّ هذا الكلام جهل بالتّاريخ، و جهل بالحقائق فعليّ عند البعث المحمّدي كان غلاما، و ما كان في سنّ يتحمّل فيها الرّسالة، بل كان في التّاسعة، وهي ليست سنّ التّكليف، فضلا عن أن تكون سنّ التّبليغ، وأمّا كون هذا الكلام يتضمّن جهلا بالوقائع، فلأنّ عليّا في رجولته لم يكن مشابها للنبيّ صلّى الله عليه و سلّم في جسمه، بل كان لكلّ منهما كيان جسمي خاص على ما هو مدوّن في الصفة الجسميّة لكلّ واحد منهما.
و على فرض أن التشابه الجسمي كان بينهما كاملا بعد أن استوى كلّ منهما رجلا، فإنّه من المؤكد أنّ ذلك التشابه حديث خرافة وقت البعث المحمّدي، لأنّه لا يمكن أن يكون التّشابه ثابتا بين غلام في التّاسعة ، و رجل مكتمل في الأربعين، فكيف يخطيء جبريل بين رجل و غلام، و كيف يكون التّشابه بينهما فيه بالقدر الّذي يشبه به الغراب الغراب...
و هذه الفرق و أشباهها من المنحرفين في الاعتقاد لا يعدّها الشّيعة من بينهم، ويصفونهم بالغلاة، و لا يعدّون أكثر هؤلاء من أهل القبلة. هذه الفرق حُسِبت على الشّيعة في التّاريخ الإسلامي رغم أنّ الشّيعة يتبرءون منهم كلّ التبرؤ، وفي كلّ الأحوال فهذا النّوع من الفرق ليس له وجود في وقتنا الحاضر بين الشّيعة الآن.
الحلقة القادمة نخصصها للكيسانيّة و الزّيدية
و الحلقة الّتي بعدها للإماميّة الإثنى عشرية و الإسماعليّة
مصطفى عبدالله ونيسي/ باريس
1) الفرق بين الفرق / عبدالقاهر البغدادي
سعيد النورسي و البعد السلمي لمشروعه الإصلاحي:مصطفى عبدالله ونيسي
مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 22 - 08 - 2010
في هذه الدراسة أحاول تسليط الضوء على علم من أعلام الإصلاح في وطننا الإسلامي الكبير. وهو علم استطاع، بما أوتي من حكمة وغزارة علم وإيمان،أن يؤسس لمدرسة فكرية متميزة في التربية والإصلاح. فهو مفكر وعالم مبدع كانت له إسهامات في الفكر الإسلامي الأصيل و المعاصر ،و التي بدأ المختصون في الفكر والبحوث الإسلامية في الشرق والغرب يعترفون بتميزها و نفاستها في مجال الإصلاح عموما، سواء منه الفكري أو السياسي والاجتماعي على حدِّ السواء ،و مع ذلك بقي هذا الرجل شخصية غير معروفة بالقدر الذي تستحقه خاصة في و طننا العربي بصفة عامة والمغرب العربي بصفة خاصة. وقياما مني و لو بجزء بسيط بواجب التعريف بهذا النوع الفذ من المصلحين الذين رَهَنُوا حياتهم ثمنا رخيصا لخدمة هذه الأمة ونهضتها وعزتها، يسعدني أن أقدم للقرّاء فذا من أفذاذ الإصلاح و التغيير السلمي في وطننا العربي و الإسلامي . إنّه سعيد النورسي رحمه الله تعالى، المعروف ببديع الزمان النورسي.
فمن هو سعيد النورسي(1876/1960)؟
هو ابن"لقَرَوِيَيْنِ كُرْدِيَيْنِ" متواضعين في شرقي الأناضول. عُرِفَ والدَاه بالاستقامة على الدين وتقوى الله ، وكان والده يشتغل بالفلاحة.
تعلّم سعيد في سلسلة من المدارس الشرعية في عصر اتسم فيه التعليم الشَّرْعِي بالانْغِلاق وعدم مواكبة تطورات ومنجزات الحياة المعاصرة، فولَّد هذا الشُّعُورُ عند النورسي رغبة جامحة في تكميل هذا النقص الذي كان يراه فادحا في شخصيته العلمية بالاطلاع على علوم الحضارة المعاصرة، فعلَّم نفسه العلوم الطَّبِيعية والفلسفية وأصبح مدَّرسا ومصلحا تربويا كبيرا. كما أنّه انخرط في الخدمة العسكرية للدفاع عن استقلال وسيادة الإمبراطورية العثمانية، فكان قائدا في جيش الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى. وأبلى البلاء الحسن في قتاله البطولي ضد الرُّوس في القوقاز، ولم يُثْنِهِ ذلك وهو في القتال عن كتابة جُزْءٍ من تفسير للقرآن الكريم. ثمَّ وقع في الأسر.
وأ رْسِلَ إلى السِّجن لمدة سنتين كأسير حرب في روسيا التي فَرَّ منها بعد ذلك. وبعد الحرب ساهم بكل حماس في دفع الحركات الاجتماعية و السياسية التي تولت مقاومة آثار الاحتلال البريطاني لاستانبول . وعند الإعلان عن تأسيس الجمهورية استدعاه مصطفى كمال أتاتورك الحاكم الجديد للبلاد، في محاولة منه لاستمالته واحتواء نشاطه السياسي و الاجتماعي، و عرض عليه منصبا في حكومة الجمهورية التركية الجديدة، ولكن هذا الأخير لم يقبل بهذا المنصب حفاظا على استقلالية قراره و نظافة منهجه و مصداقية دعوته الإصلاحية. فكانت النتيجة بطبيعة الحال اتهامه ظُلما بالتآمر على أمن الدولة و استقرارها في حركة تمرد اندلعت في شرقي الأناضول ضد النظام الجمهوري الجديد للبلد فأجْبِرَ الرَّجُلُ على الرَّحيل إلى المنفى في غرب الأناضول لسنوات تلت بلغت الخمس والعشرين . وفي تلك الفترة انسحب الرّجل من الحياة العامة ليكرس حياته و موهبته لتفسير القرآن و كتابة مؤلفه النفيس "رسائل النور".
وهكذا نرى أن سعيدا النورسي مرَّ في حياته العلميّة و الفكرية بمرحلتين رئيسيتين هما "سعيد القديم " و " سعيد الجديد". و قد تزامنت هاتان الفترتان إلى حد بعيد مع المراحل الرئيسية التي عرفها التاريخ الحديث لتركيا، وهي العقود الأخيرة للإمبراطورية العثمانية، تليها الأعوام السبع و العشرين الأولى من عهد الجمهورية التركية التي أعلن عن تأسيسها يوم ألغيت الخلافة في 3مارس1924 م . هذا بالإضافة إلى فترة ثالثة وهي فترة ما يعرف بسعيد الثالث و التي تُعتبر في جوهرها امتدادا لفترة " سعيد الجديد" مع اشتمالها على بعض خصائص " سعيد القديم " ، و قد تزامنت تلك الفترة مع فترة حكم الحزب الديمقراطي(1950 1960) . وقد مثلت السنوات العشر الأخيرة من حياة النورسي (2). هذه المراحل أبانت عن تفتح عقليته وقدرته على التفاعل الإيجابي مع محيطه من ناحية،وتطور فكره و مرونة منهجه الإصلاحي و حداثته من ناحية ثانية .
وهي مراحل ينبغي على كل دارس مهتم بدراسة هذه الشخصية أن يتمعن فيها ويدرسها بعمق حتى يستفيد منها و يستنير بما توفر فيها من هُدى و حكمة.
لا شك أن حياة الرّجل كانت مليئة بالنشاط العلمي و التربوي ولكن ما يهمنا منها في هذا المقال هو رؤية الرجل للإصلاح عموما و موقفه من التغيير والرقي بوعي الإنسان نحو الكمال و الفاعلية من ناحية ثانية. فما هي رؤية الرجل للإصلاح ؟ و ما هو المنهج والمسالك الاصلاحية التي أفرزها فكر الرّجل وبلورها ؟
النوّرسي و مسألة الإصلاح :
سعيد النورسي هو واحد من أولئك العلماء والمفكرين الذين ساءهم حال أمة الإسلام وقد تساءل عن أسباب تأخر المسلمين و تقدم غيرهم ، ولكنه مع ذلك لم يستسلم لهذا الواقع قط ، فحاول أن يفهم وينقب و يكشف عن أهم أسباب تأخر هذه الأمة.و لم يكتفي النورسي بدور الكشف عن علل الإمبراطورية العثمانية،كممثل رسمي وأساسي لوحدة الأمة سياسيا، التي أصبحت القوى الاستعمارية تُطلق عليها اسم الرجل المريض، وإنّما فعل ذلك بغرض البحث عن المعالجات الحقيقية لهذه العلل التي أصابت العالم الإسلامي بأسره في الصميم للنهوض به و بأمته مرة أخرى. و بناء على ذلك سخّر حياته لهذه المهمة ،فحاول أن ينير السبل إلى كيفية النهوض بهذا العالم من جديد. وإذا أردنا أن نفهم المشروع الإصلاحي للنورسي فينبغي علينا العودة والاستفادة من دراسة رسائله المعروفة برسائل النور عامة،فهي مصدر هذا الإصلاح و محضنه الأول. كما أنَّ تتبع مسار التطور الفكري للنورسي في مختلف مراحل حياته الثلاث وقراءة عوامل و أسباب هذا التطور تفيدنا في بيان حقيقة مشروعه الإصلاحي كما كنا قد أشرنا إلى ذلك سابقا.وقبل الوقوف على أهم المفاصل التاريخية لحياة الرجل في مجال الفكر و التربية و الإصلاح بصفة عامة، لابد من التعريف ولو بإيجاز برسائل النّور باعتبارها الوثيقة الأولى والنص الأساسي و النظري لمشروع بديع الزمان النورسي؟
رسائل النور: النص المؤسس للمدرسة الإصلاحية للنورسي:
قديما قالوا الشعر ديوان العرب. وكذلك رسائل النور فهي ديوان المشروع الإصلاحي للمصلح الكبير و المربي الفذ بديع الزمان الملا سعيد النورسي. وهي كما يصفها صاحبها : غذاء روحاني جريء(3) و مُعجزة قرآنية (4) ووسيلة تحافط على القرآن و تفسره (5) و حقيقة صوفية (6) و تنبيهات وإخطارات (7) وأنها ضياء معنوي (8) وأنّ مسلكها مقتبس من نور مسلك الصحابة الكرام (9).
يحاول النورسي، من خلال ربطه لرسائل النور بالقرآن ،أن يقيم علاقة بين القرآن كنص مقدس ونصه الرسائل كنص بشري ، فأقواله و كتاباته لا تشكل أي نوع من العقائد الدينية المستقلة بذاتها وأن صلاحية هذه الأقوال و الكتابات إنما هي مُستمدة من القرآن وحده الذي هو بالنسبة إليه : (" خطاب و دواء"لجميع طبقات البشر من أذكى الأذكياء إلى أغبى الأغبياء، ومن أتقى الأتقياء إلى أشقى الأشقياء)(10)
فالرسائل كما يراها صاحبها هي مجرد عمل يلخص كل الأفكار و المشاعر بأولياء الإسلام منذ البداية و حتى النهاية. وهو بهذا الربط بين نصه ونصوص غيره من علماء الإسلام الكبار يقيم نوعا من التواصل والعلاقة الخفية و التاريخية بينه وبين الآباء الروحيين الكبار للإسلام أ و حتى لبقية الحكماء و الآباء الروحيين للبشرية من غير المسلمين.(11)
وهي كما يقول : ( إنّما ترشحت من زُلال القرآن)(12) و(خرجت من القرآن)(13)
فالتاريخ الإسلامي لم يخل حاله من مصلحين مجدّدين ( يبعث الله على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها)،ورسائل النور هي بدورها تندرج ضمن هذا السياق ،فهي امتداد للفكر الإصلاحي التنويري الديني منذ العهد الأول للإسلام إلى الوقت الحاضر وإلى أن تقوم السّاعة.
فرسائل النور هي النص الأول و الأساسي المؤسس للفكر الإصلاحي للمصلح الإسلامي الكبير سعيد النورسي رحمه الله. والانطلاق منها للتعرف على الأراء و الأفكار الإصلاحية للنورسي ضرورة منهجية و موضوعية تفرض نفسها.
هذه لمحة جدّ عامة عن سعيد النورسي و رسائله النورانية نمهد بها لدراسة التغيير السلمي عند العلامة الكبير بديع الزمان الملا سعيد النورسي رحمه الله و أسكنه فراديس الجنان
الثلاثاء 3 أوت 2010
مصطفى عبدالله ونيسي /باريس
هوامش:
1 خلاصة موجزة عن سيرة سعيد النورسي قد نعود إلى تفصيلاتها في دراسة تالية.
2 نحو سيرة فكرية لسعيد النورسي : شكران واحدة ص 28من كتاب الإسلام على مفترق الطرق .
3 المثنوي العربي النوري : سعيد النورسي،70
4 الملاحق ( انظر ملحق بارلا) : النورسي،83
5 ملحق قسطموني ، النورسي ،100
6 نفس المصدر ،123
7 نفس المصدر ص 202 /
8 9 نفس المصدر ، 202/205 223
10 المثنوي العربي ،100
11 كيف نقرأ " رسائل النور" لسعيد النورسي : ابراهيم محمد أبو ربيع ص 97 من كتاب الإسلام على مفترق الطرق
12 ختم التصديق الغيبي/ النورسي 9 3
13 المكتوبات/ النورسي ص 479
هو ابن"لقَرَوِيَيْنِ كُرْدِيَيْنِ" متواضعين في شرقي الأناضول. عُرِفَ والدَاه بالاستقامة على الدين وتقوى الله ، وكان والده يشتغل بالفلاحة.
تعلّم سعيد في سلسلة من المدارس الشرعية في عصر اتسم فيه التعليم الشَّرْعِي بالانْغِلاق وعدم مواكبة تطورات ومنجزات الحياة المعاصرة، فولَّد هذا الشُّعُورُ عند النورسي رغبة جامحة في تكميل هذا النقص الذي كان يراه فادحا في شخصيته العلمية بالاطلاع على علوم الحضارة المعاصرة، فعلَّم نفسه العلوم الطَّبِيعية والفلسفية وأصبح مدَّرسا ومصلحا تربويا كبيرا. كما أنّه انخرط في الخدمة العسكرية للدفاع عن استقلال وسيادة الإمبراطورية العثمانية، فكان قائدا في جيش الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى. وأبلى البلاء الحسن في قتاله البطولي ضد الرُّوس في القوقاز، ولم يُثْنِهِ ذلك وهو في القتال عن كتابة جُزْءٍ من تفسير للقرآن الكريم. ثمَّ وقع في الأسر.
وأ رْسِلَ إلى السِّجن لمدة سنتين كأسير حرب في روسيا التي فَرَّ منها بعد ذلك. وبعد الحرب ساهم بكل حماس في دفع الحركات الاجتماعية و السياسية التي تولت مقاومة آثار الاحتلال البريطاني لاستانبول . وعند الإعلان عن تأسيس الجمهورية استدعاه مصطفى كمال أتاتورك الحاكم الجديد للبلاد، في محاولة منه لاستمالته واحتواء نشاطه السياسي و الاجتماعي، و عرض عليه منصبا في حكومة الجمهورية التركية الجديدة، ولكن هذا الأخير لم يقبل بهذا المنصب حفاظا على استقلالية قراره و نظافة منهجه و مصداقية دعوته الإصلاحية. فكانت النتيجة بطبيعة الحال اتهامه ظُلما بالتآمر على أمن الدولة و استقرارها في حركة تمرد اندلعت في شرقي الأناضول ضد النظام الجمهوري الجديد للبلد فأجْبِرَ الرَّجُلُ على الرَّحيل إلى المنفى في غرب الأناضول لسنوات تلت بلغت الخمس والعشرين . وفي تلك الفترة انسحب الرّجل من الحياة العامة ليكرس حياته و موهبته لتفسير القرآن و كتابة مؤلفه النفيس "رسائل النور".
وهكذا نرى أن سعيدا النورسي مرَّ في حياته العلميّة و الفكرية بمرحلتين رئيسيتين هما "سعيد القديم " و " سعيد الجديد". و قد تزامنت هاتان الفترتان إلى حد بعيد مع المراحل الرئيسية التي عرفها التاريخ الحديث لتركيا، وهي العقود الأخيرة للإمبراطورية العثمانية، تليها الأعوام السبع و العشرين الأولى من عهد الجمهورية التركية التي أعلن عن تأسيسها يوم ألغيت الخلافة في 3مارس1924 م . هذا بالإضافة إلى فترة ثالثة وهي فترة ما يعرف بسعيد الثالث و التي تُعتبر في جوهرها امتدادا لفترة " سعيد الجديد" مع اشتمالها على بعض خصائص " سعيد القديم " ، و قد تزامنت تلك الفترة مع فترة حكم الحزب الديمقراطي(1950 1960) . وقد مثلت السنوات العشر الأخيرة من حياة النورسي (2). هذه المراحل أبانت عن تفتح عقليته وقدرته على التفاعل الإيجابي مع محيطه من ناحية،وتطور فكره و مرونة منهجه الإصلاحي و حداثته من ناحية ثانية .
وهي مراحل ينبغي على كل دارس مهتم بدراسة هذه الشخصية أن يتمعن فيها ويدرسها بعمق حتى يستفيد منها و يستنير بما توفر فيها من هُدى و حكمة.
لا شك أن حياة الرّجل كانت مليئة بالنشاط العلمي و التربوي ولكن ما يهمنا منها في هذا المقال هو رؤية الرجل للإصلاح عموما و موقفه من التغيير والرقي بوعي الإنسان نحو الكمال و الفاعلية من ناحية ثانية. فما هي رؤية الرجل للإصلاح ؟ و ما هو المنهج والمسالك الاصلاحية التي أفرزها فكر الرّجل وبلورها ؟
النوّرسي و مسألة الإصلاح :
سعيد النورسي هو واحد من أولئك العلماء والمفكرين الذين ساءهم حال أمة الإسلام وقد تساءل عن أسباب تأخر المسلمين و تقدم غيرهم ، ولكنه مع ذلك لم يستسلم لهذا الواقع قط ، فحاول أن يفهم وينقب و يكشف عن أهم أسباب تأخر هذه الأمة.و لم يكتفي النورسي بدور الكشف عن علل الإمبراطورية العثمانية،كممثل رسمي وأساسي لوحدة الأمة سياسيا، التي أصبحت القوى الاستعمارية تُطلق عليها اسم الرجل المريض، وإنّما فعل ذلك بغرض البحث عن المعالجات الحقيقية لهذه العلل التي أصابت العالم الإسلامي بأسره في الصميم للنهوض به و بأمته مرة أخرى. و بناء على ذلك سخّر حياته لهذه المهمة ،فحاول أن ينير السبل إلى كيفية النهوض بهذا العالم من جديد. وإذا أردنا أن نفهم المشروع الإصلاحي للنورسي فينبغي علينا العودة والاستفادة من دراسة رسائله المعروفة برسائل النور عامة،فهي مصدر هذا الإصلاح و محضنه الأول. كما أنَّ تتبع مسار التطور الفكري للنورسي في مختلف مراحل حياته الثلاث وقراءة عوامل و أسباب هذا التطور تفيدنا في بيان حقيقة مشروعه الإصلاحي كما كنا قد أشرنا إلى ذلك سابقا.وقبل الوقوف على أهم المفاصل التاريخية لحياة الرجل في مجال الفكر و التربية و الإصلاح بصفة عامة، لابد من التعريف ولو بإيجاز برسائل النّور باعتبارها الوثيقة الأولى والنص الأساسي و النظري لمشروع بديع الزمان النورسي؟
رسائل النور: النص المؤسس للمدرسة الإصلاحية للنورسي:
قديما قالوا الشعر ديوان العرب. وكذلك رسائل النور فهي ديوان المشروع الإصلاحي للمصلح الكبير و المربي الفذ بديع الزمان الملا سعيد النورسي. وهي كما يصفها صاحبها : غذاء روحاني جريء(3) و مُعجزة قرآنية (4) ووسيلة تحافط على القرآن و تفسره (5) و حقيقة صوفية (6) و تنبيهات وإخطارات (7) وأنها ضياء معنوي (8) وأنّ مسلكها مقتبس من نور مسلك الصحابة الكرام (9).
يحاول النورسي، من خلال ربطه لرسائل النور بالقرآن ،أن يقيم علاقة بين القرآن كنص مقدس ونصه الرسائل كنص بشري ، فأقواله و كتاباته لا تشكل أي نوع من العقائد الدينية المستقلة بذاتها وأن صلاحية هذه الأقوال و الكتابات إنما هي مُستمدة من القرآن وحده الذي هو بالنسبة إليه : (" خطاب و دواء"لجميع طبقات البشر من أذكى الأذكياء إلى أغبى الأغبياء، ومن أتقى الأتقياء إلى أشقى الأشقياء)(10)
فالرسائل كما يراها صاحبها هي مجرد عمل يلخص كل الأفكار و المشاعر بأولياء الإسلام منذ البداية و حتى النهاية. وهو بهذا الربط بين نصه ونصوص غيره من علماء الإسلام الكبار يقيم نوعا من التواصل والعلاقة الخفية و التاريخية بينه وبين الآباء الروحيين الكبار للإسلام أ و حتى لبقية الحكماء و الآباء الروحيين للبشرية من غير المسلمين.(11)
وهي كما يقول : ( إنّما ترشحت من زُلال القرآن)(12) و(خرجت من القرآن)(13)
فالتاريخ الإسلامي لم يخل حاله من مصلحين مجدّدين ( يبعث الله على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها)،ورسائل النور هي بدورها تندرج ضمن هذا السياق ،فهي امتداد للفكر الإصلاحي التنويري الديني منذ العهد الأول للإسلام إلى الوقت الحاضر وإلى أن تقوم السّاعة.
فرسائل النور هي النص الأول و الأساسي المؤسس للفكر الإصلاحي للمصلح الإسلامي الكبير سعيد النورسي رحمه الله. والانطلاق منها للتعرف على الأراء و الأفكار الإصلاحية للنورسي ضرورة منهجية و موضوعية تفرض نفسها.
هذه لمحة جدّ عامة عن سعيد النورسي و رسائله النورانية نمهد بها لدراسة التغيير السلمي عند العلامة الكبير بديع الزمان الملا سعيد النورسي رحمه الله و أسكنه فراديس الجنان
الثلاثاء 3 أوت 2010
مصطفى عبدالله ونيسي /باريس
هوامش:
1 خلاصة موجزة عن سيرة سعيد النورسي قد نعود إلى تفصيلاتها في دراسة تالية.
2 نحو سيرة فكرية لسعيد النورسي : شكران واحدة ص 28من كتاب الإسلام على مفترق الطرق .
3 المثنوي العربي النوري : سعيد النورسي،70
4 الملاحق ( انظر ملحق بارلا) : النورسي،83
5 ملحق قسطموني ، النورسي ،100
6 نفس المصدر ،123
7 نفس المصدر ص 202 /
8 9 نفس المصدر ، 202/205 223
10 المثنوي العربي ،100
11 كيف نقرأ " رسائل النور" لسعيد النورسي : ابراهيم محمد أبو ربيع ص 97 من كتاب الإسلام على مفترق الطرق
12 ختم التصديق الغيبي/ النورسي 9 3
13 المكتوبات/ النورسي ص 479
محمّد البوعزيزي قاهر المُستبدين: مصطفى عبدالله ونيسي
مصطفى عبد الله ونيسينشر في الفجر نيوز يوم 15 - 03 - 2011
عَفْوا أيّها الملوك والرؤساء، عفوا أيّها الحكّام عن جرأة شارعنا العربي غير المُعتادة على سموّكم. فالمقصود، يا سادة، ليس إحراجكم، فأنتم لا تستحقون ذلك، وإنما المقصود هو فهم أسباب جرأة شارعنا العربي المفاجئة على سيادتكم في كل مكان دون سابق إعلام. أيها السّادة نريد أن نفهم لماذا تغيّر حال الشارع العربي من حال إلى حال ؟ نريد أن نفهم لماذا كل هذا الغضب على سيادتكم؟ ما بال هذا المواطن العربي الذّي كان بالأمس القريب خائفا يترقب، أصبح اليوم أسدا يتربص؟ أيّها السّادة الشعب يريد أن يفهم لماذا كان بالأمس يُصوِّت لسيادتكم بتسعة وتسعين في المائة واليوم أصبح لا يتغنّى إلا بخلعكم وإسقاط نظامكم؟ أهي حِكْمَة ٌ أَمْ جُنُونٌ، هذا الذِّي أصاب شعوبنا العربية؟
أصحاب الجلالة والفخامة لا أخْفيكم الحقيقة، وإن كانت عليكم مُرّة. إنكم يا سادة على خطر عظيم، فالبحر من أمامكم و الشّعب من وراءكم ولا ملجأ لكم ولا منجى،بل و لا أمل لكم في الحياة و النجاة من غضب شعوبكم إلا بالانحناء و التصالح مع البوعزيزي وأمثاله ممن جسدوا العزّة والكرامة الإنسانية بأرواحهم الزّكية، فأتاهم الله نصرا عجزت عن صنعه المنظمات المدعومة و غير المدعومة،والأحزاب المعترف بها و غير المعترف بها،و الثورية و الإصلاحية،اليمينية و اليسارية و الإسلامية سواء منها السياسية أو الجهادية مُجتمعة. أصحاب الجلالة و الفخامة عليكم أن تعرفوا أن عصر الاستبداد و الحاكم بأمر الله قد ولّى إلى غير رجعة وأن السيّادة الحقيقيّة في مستقبلا لن تكون إلاّ للشعوب التائقة للحريّة و الكرامة الانسانية، فهي وحدها مَنْ ستأخذ مصيرها بأيديها تقودها في ذلك وترفرف عليها روح البوعزيزي وأمثاله من الذين غَذّوْا الثورة بدمائهم فصنعوا ربيع النهضة العربية ودفعوا أرواحهم الطّاهرة ثمنا لذلك.
أيها السّادة ،إذا أردتم أن تصطلحوا مع شعوبكم ويكون لكم مكان تحت الشمس ، فعليكم أن تصطلحوا مع ثورة البوعزيزي وتحترموا مشاعره ، فثورة البوعزيزي و مشاعره هي ثورتنا جميعا و مشاعرنا جميعا، ونحن لن نفرط في ثورتنا أبدا، كما أننا لن نسمح لكم مستقبلا أن تستهينوا بمشاعرنا كلفنا ذلك ما كلفنا، هذا ما علّمنا إياه البوعزيزي عندما غضب لكرامته وعزّته. أيها السّادة أعرف أن فهم هذا الأمر صعب عليكم إدراكه، وعليكم إذا ما أردتم أن تتقوا غَضبة الشارع مرّة ثانية أن تتواضعوا لشعوبكم و تستوعبوا الملحمة البطولية التي جسدها البوعزيزي وتأذنوا بتدريس هذه الثورة ناصعة البياض التي كان هو وقودها و سبب انطلاق شرارتها الأولى في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج.
فمن هو، إذا، محمّد البوعزيزي الذّي استطاع بغضبته المقدسة أن يهزّ عروشكم، و يزلزل الأرض من تحت أقدامكم،ويخلط أوراقكم و يضع حدّا لفسادكم وإفسادكم.
هذا ما سنراه في حلقة ثانية إن شاء الله تعالى.
باريس 15مارس2011
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
أيها السّادة ،إذا أردتم أن تصطلحوا مع شعوبكم ويكون لكم مكان تحت الشمس ، فعليكم أن تصطلحوا مع ثورة البوعزيزي وتحترموا مشاعره ، فثورة البوعزيزي و مشاعره هي ثورتنا جميعا و مشاعرنا جميعا، ونحن لن نفرط في ثورتنا أبدا، كما أننا لن نسمح لكم مستقبلا أن تستهينوا بمشاعرنا كلفنا ذلك ما كلفنا، هذا ما علّمنا إياه البوعزيزي عندما غضب لكرامته وعزّته. أيها السّادة أعرف أن فهم هذا الأمر صعب عليكم إدراكه، وعليكم إذا ما أردتم أن تتقوا غَضبة الشارع مرّة ثانية أن تتواضعوا لشعوبكم و تستوعبوا الملحمة البطولية التي جسدها البوعزيزي وتأذنوا بتدريس هذه الثورة ناصعة البياض التي كان هو وقودها و سبب انطلاق شرارتها الأولى في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج.
فمن هو، إذا، محمّد البوعزيزي الذّي استطاع بغضبته المقدسة أن يهزّ عروشكم، و يزلزل الأرض من تحت أقدامكم،ويخلط أوراقكم و يضع حدّا لفسادكم وإفسادكم.
هذا ما سنراه في حلقة ثانية إن شاء الله تعالى.
باريس 15مارس2011
مصطفى عبدالله ونيسي/باريس
مصطفى ونيسي: هذه بعض أسباب استقالتي من حركة النهضة ..حاوره في باريس الطاهر العبيدي
14 أفريل,2014 15:03

من الجيل الأول الذي انتمى مبكرا لحركة النهضة حين كانت تسمى
” الاتجاه الاسلامي “، وعايش كل مراحلها من قبل التأسيس إلى بداية إعلان بيان 6 جوان 1981، مرورا بكل محطات الصعود والنزول، إلى حدود الثورة. كما رافق تفاصيل محنة الحركة بالمهجر ما يقارب الثلاث عقود..
ذاك هو بإيجاز السيد ” مصطفى عبدالله ونيسي “، الذي بعد هذه المسيرة الطويلة نراه أخيرا يقدم استقالته من ” حركة النهضة التونسية “.
للوقوف على بعض الأسباب وخفايا هذا القرار، أجرينا معه هذا الحوار، دون أن نكون معنيين ولا منخرطين في المطابخ الداخلية للأحزاب، سوى إنارة القارء وإفادة المواطن وإدارة الحوار، معتمدين في ذلك المهنية والموضوعية والحياد، ومنحازين فقط للإعلام المستقل والجاد، بعيدا عن صحافة الربو والزكام.
بعد حوالي ثلاث عقود من الانتماء لحركة النهضة تعلن استقالتك، فما هي الدوافع الحقيقية لهذا القرار ولماذا الآن؟
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الاستقالة هي موقف واع ومسؤول ومُفكّر فيه ، ولكنّها تبقى دائما عمليّة شديدة الوقع على النّفس البشريّة، وخاصة إذا ما كانت الاستقالة من حركة إسلامية في حجم حركة النّهضة.
أمّا عن الدّوافع لهذه الاستقالة فهي كثيرة، وما زادتها الأيّام إلاّ تراكما. ومن أهمّ هذه العوامل على سبيل الذّكر لا الحصر اليأس من إحداث الاصلاحات الهيكليّة المطلوبة، وعدم الجدّية في الفصل بين المجالين الدّعوي والسّياسي، والإصرار على ترحيل عمليّة التقييم وإعادة ترتيب البيت النهضوي من الدّاخل بما يستجيب لمطالب الثورة في الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة إلى أجل غير مسمّى، والهرولة إلى السّلطة في أوّل فرصة توفرت دون ضوابط موضوعية وأخلاقية ودون تحديد رزنامة ( أجندة) سياسية معلومة الآجال، وكذلك تمييع مسار العدالة الانتقالية والتلويح تلميحا وتصريحا بضرورة وشرعيّة التطبيع مع أعمدة الاستبداد السابق، ممثلة في رموز الثّورة المضادّة القدامى منهم والجدد…
أمّا عن اختيار التوقيت، فلأنّ الأمر لم يعد يحتمل التأخير أكثر.
ذكرت في استقالتك عبارة أن ” حركة النهضة ” لم تعد تسعك، وأن أدائها أثناء الحكم لم يكن في مستوى انتظارات وأهداف الثورة، فهل من توضيح حول خلفية هذا التصريح، الذي يستبطن ضيقا بالرأي المخالف والناقد، وأن فضاء الحريات داخل هذا الهيكل السياسي منكمشا وغير رحب، وأن النهضة لم تكن وفيّة لقيم ومبادئ الثورة، كما يستشفّ من عباراتك، في حين أن البعض يؤكد أن أطر الحركة فيها أقدارا كبيرة من مساحات حرية إبداء الرأي والنقد والتقييم؟
حركة النّهضة حركة جماهيرية لها جذورها الممتدة في كلّ الأوساط الشّعبيّة. وهذا البعد الجماهيري يعني فيما يعني وبشكل طبيعي تعدد التّيارات، وهذا التعدد يقتضي ويفرض علينا الحرص على تمثيليّة كلّ هذه التّيارات عبر آلية ديمقراطية تضمن لكلّ تيار حقّه في ممارسة القيادة ضمن عقد تنظيمي وسياسي داخلي يحقق الانسجام الحزبي للقيادة رغم التعدد ويستثمر الثّراء الفكري والسياسي لمختلف هذه التيارات في الإفادة والتنوع، دون أن يؤثر ذلك سلبا على فاعليّة الحزب وديناميكيته في ساحة النّضال السّياسي والاجتماعي كما هو الحال تقريبا بالنسبة للحزب الاشتراكي في فرنسا. وهذا التعاقد القيمي بين مختلف الحساسيات الفكرية داخل الحركة طال انتظاره ولم يحصل، فبقيت الحركة تُقاد بمجموعة واحدة لا شريك لها في القيادة في حالة المواجهة وفي حالة السّلم ولو كان نسبيّا ، كذلك الشأن بالنسبة للمجالين الدّعوي و السياسي، و في كلّ المجالات دون مراعاة للمهارات المطلوبة والاختصاصات المتنوعة كما أنّ هذه المجموعة أممّت كلّ الفضاءات السّياسيّة والتنظيميّة والإعلامية بشروطها ، وهمّشت كلّ الطاقات والكفاءات الأخرى ومن خالفها الرّأي ، وأسقطته من حسابها سواء قبل الثّورة أو بعدها. فالمقياس في توليّة المهام
والوظائف سواء منها الحزبية أو الحكوميّة لم يكن الكفاءة
والنزاهة، وإنّما كان المحدّد الأهم هو الولاء الحزبي
والمحاباة، والعلاقات ذات الأبعاد المصلحية وحتّى الروابط الأسريّة، وهو سلوك خلنا أنّه قد ولّى واندثر، فنحن في سياق ثوري لا يقبل بأنصاف الحلول. هذا التّمشي انعكس سلبا على أداء المجلس الوطني التأسيسي، الذي كان بطيئا ومُكلفا ومُرهقا وصادما ، وكذلك انعكس ضعفا على أداء الفريق الحكومي وفي كلّ المجالات وخاصة منها التنموي والأمني والعدالة الانتقاليّة..
لهذه الأسباب مجتمعة وغيرها ، شعرت أنني مع احترامي الكامل لكلّ المناضلين أنِّي قد أصبحت غريبا داخل هذه الحركة ، ولذلك فهي لم تعد تسعني سياسيا.
استقالتك هذه المرة كانت معلنة وعلنية، وعمليا وحسب بعض مصادرنا فقد كنت في السنوات الأخيرة مستقيلا تنظيميا، احتجاجا كما تقول أو كما يقال في الكواليس، عن عدم رضاك على المنهج الذي اتبعته حركة النهضة في المهجر. إذ لم تفلح حسب قناعاتك ومن معك في فضّ الاشتباك بينها وبين النظام البائد؟
لا، لم أكن تنظيميّا مستقيلا ، ولكن كنت في وضع المستقيل غصبا عنّي لأن الفريق القيادي لم يقبل بنا كشركاء له إلاّ بشروطه، وكثيرا ما سمعنا وللأسف، كلاما جارحا من قبيل ( من لم يقبل بنا بشروطنا فليتخذ لنفسه سقفا آخر)، وهي كلمات جارحة لما تستبطنه من ظلم وإقصاء للمخالفين، لا لتجاوز ارتكبوه وإنّما لمجرد اختلاف في الرّأي. و أنا بالمناسبة أحمّل القيادة التي كانت بالمهجر مسؤولية حرمان كثير من الكفاءات النزيهة والمخلصة من خدمة بلادهم، التي طالما ناضلوا من أجلها، وتمنوا أن يساهموا في بناء بلدهم ،ولكن من خلال مشروع حركتهم. و رغم هذه الغبن المسّلط علينا، تعالينا فوق جراحنا وكنّا إيجابيين، وكان لنا حضورا إعلاميّا من خلال ما كتبته من مقالات كثيرة دفاعا عن الحركة وحكومة الترويكا. كما أنّي لم آل جهدا نُصحا للحركة ، ولي من الوثائق
والرسائل ما يثبت ذلك.
أنت أحد المحسوبين على التيار المعارض أو الناقد لخط الحركة في المهجر كما تسمّون أنفسكم، وكنت ضمن ما يسمى بمجموعة 12، حيث كنتم من دعاة فتح قنوات حوار مع النظام المخلوع، من أجل البحث على نوافذ لتخليص المساجين والمهجّرين من محنتهم وطي صفحة الماضي حسب طرحكم، فوقع استبعادكم كما تقولون من طرف الرافضين لهذا النهج، في حين أن الوقائع أثبتت أن اجتهادكم ذاك كان مجانبا للصواب، وقراءتكم السياسية كانت متسللة عن الواقع؟
لا لم نكن تيّارا معارضا أو ناقدا لخطّ الحركة في المهجر، ولكن في نفس الوقت لم نكن راضين لا عن قرارات ولا عن أداء قيادة الحركة. والفرق كبير بين خطّ الحركة في المهجر، وقيادة الحركة ذات اللّون الواحد في المهجر. فنحن لم نكن تيّارا مقنّنا ومعترفا به، وإنّما كنا مجموعة مهمّة من المناضلين الشرفاء الّذين يهمهم مصير بلادهم ومستقبل حركتهم. وسلوك كهذا في الأصل لا يستحق أصحابه العقاب والإقصاء وإنّما يستحقون التشجيع والرّعاية. صحيح طالبنا بالبحث عن سبل سياسية لفتح حوار مع النّظام من أجل رفع المظلمة عن المساجين، ووضع حدّ لمراقبة المعارضين والتضييق عليهم، وغير ذلك من المطالب الحقوقيّة كمدخل منهجي لولوج المطالب السّياسيّة في مرحلة متقدمة ونحن في وضع نفسي اجتماعي أفضل وأقوى. وما ينبغي علينا أن نذكره هو أن نضع كلّ ذلك في سياقه السياسي والتّاريخي، إذ أنّ موازين القوى في ذلك الوقت كانت منخرمة بالكامل لصالح النّظام، إضافة لحالة الجمود والعجز عن تحرير ولو سجين واحد من طرف قيادة حركة النّهضة في المهجر.. ما يشغلنا كأولويّة كان هو التخفيف على المساجين وعائلاتهم. كما أنّنا على المستوى المبدئي كنّا لا نؤمن إلاّ بالسّلميّة سبيلا ومنهجا لحسم خلافاتنا واسترجاع حقوقنا، وبناء عليه كنّا مصرّين على الحلّ السّياسي رغم تعنت النّظام لأننا كنّا نعلم أنّ هذا الأخير لن يكون هو اللّاعب الوحيد في السّاحة الوطنيّة على المدى المتوسط والبعيد، فهناك حراك المجتمع المدني، وهناك ضغط المنظمات الحقوقية، إلى جانب القوى العظمى التي تعتبر أنّ التلاعب بمصالحها خطّا أحمر. كنّا نعرف أنّه بشيء من المقاومة السّلمية والإصرار عليها لن تكون معركتنا مع النّظام محسومة لصالحه. كان هذا خطابنا في السّر والعلن. وهذا ما صدّقته الأيّام، وأما الثّورة، ولئن لم يكن أحد يتوقع أنّها ستنفجر بهذه السّرعة
وبهذه الرّاديكاليّة ، إلاّ أنّها في الحقيقة كان انفجارها تصديقا لتحليلنا ورهاناتنا التّي وضعناها نصب أعيننا.
أمّا القيادة فقد كان خطابها المعلن ثوريّا، لا عقلانيّة تحكمه ، وسياسيا كان خطابا غير مسؤول، أمّا سلوكها في الكواليس فقد كان يتسم بالهرولة المهينة نحو النّظام، وكان الاستعداد لكلّ التنازلات متوفرا، وكانوا لا ينتظرون إلاّ إشارة من المخلوع حتّى يلبّوا دعوته، المهم القبول بهم ولو عن حلول منقوصة ومتدرجة والدّلائل عمّا نقول لا تنقصنا. وهذا ما نسميه ازدواجية في الخطاب والسّلوك وهو ما أوتينا منه في كلّ مرّة .
فاجتهادنا ، إذن، لم يكن مجانبا للصوّاب ، و إنّما كان مبنيا على قراءة عقلانيّة وتحليل موضوعي لواقع النّظام الحاكم وواقع القوى العظمى وتأثيرها على واقعنا الوطني والإقليمي. أمّا الثورة التّي رفعت رؤوسنا عاليا وحررتنا من كلّ تلك الحسابات المرهقة والمكلفة لزحزحة النّظام لو قيد أنملة عن مواقفه الاستبداديّة الغاشمة لم يكن أحد يتوقعها ، والعبرة بالمآلات كما يقول الأصوليون ، فمن من الفريقين في الوقت الرّاهن لا يزال وفيّا للثورة، ومن الّذي التف عليها وهرب بها بعيدا عن انتظارات شعبنا في الحرية والكرامة؟
انتهجت ” حركة النهضة ” وهي في سدّة الحكم مسلك الحوار مع كل الفرقاء السياسيين ومختلف الفاعلين في المجتمع المدني، من أجل مصلحة الوطن كما يصرّح ويؤكد قادتها، في حين دعاة الحوار بالأمس وأنت أحدهم يعارضون هذا المسلك ويعتبرونه تنازلات مجانية وضعفا سياسيا، أليس هذا نوعا من السبي السياسي للمواقف؟
الحوار الوطني الأخير الّذي انبثقت عنه خارطة للطريق، سبقته مبادرات لحوارات وطنيّة كثيرة، فلماذا فشلت تلك الحوارات ونجح الحوار الوطني هذه المرّة بقيادة الرّباعي الرّاعي للحوار؟
أعتقد أنّ ذلك لم يكن صدفة وإنّما هو أمر قد دُبّر بليل.
ففشل مؤتمرات الحوار الوطني سابقا سببه الأساسي أن حركة النّهضة لم تكن جادّة في تعاطيها مع هذه المؤتمرات الحواريّة، ولكن عندما شاهدت المصير الذي صار إليه الإخوان في مصر، وتدخلت أطرافا أجنبية للضّغط على الحركة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أحدث ذلك صدمة في أوساط القيادات النّهضوية وخاصة رئيسها، خوفا من حدوث الكارثة. وطلب هذا الأخير من منظوريه في الحكومة والحزب والمجلس التأسيسي الإسراع بالخروج من البيت حتّى لا يسقط السقف عليهم. فمساهمة الحركة في الحوار الوطني الأخير، الذي انبثقت عنه خارطة الطّريق المهينة ، التّي بمقتضاها انسحبت حكومة (الترويكا) من السّلطة لم يكن عن قناعة وإرادة مستقلة ، كما يُريد الإعلام المخاتل وأنصار النهضة أن يسوّقوا لنا ذلك ، وإنما كان عن ضغط وإكراه وارتكاب لأخف الضّررين. فسيناريو الحوار الوطني هو بالنسبة إلينا انقلاب أبيض، مدعوما بأطراف خارجية وداخلية لا يهمها كثيرا الشّرعية السياسية ، التي أفرزتها انتخابات 23 أكتوبر 2011 ، بقدر ما يهمها مصالحها المتناقضة في أغلب الأحيان مع مصالح شعبنا المسكين. فالحوار الوطني بالمقاييس الوطنيّة لم يكن وطنيا بالمرّة، وقيادة حركة النّهضة تُدْرك ذلك، حتّى وإن حاولت تصوير الفشل الذّريع نصرا، وأنّ رئيس حركتهم بطلُ سِلْمٍ ، وأنّ السّذاجة السّياسية حكمة وذكاء. فنجاح الحوار الوطني لم يكن تنازلا من طرف حركة النّهضة لصالح الوطن، وإنما كان إنقاذا لحركة النهضة ولرئيسها بالذّات من مصير شبيه بمصير الإخوان في مصر، وهو ما لا تحتمله قيادات حركة النهضة، خاصة بعد أن أصبح حزبها حزب سلطة وصفقات سلطوية ، فولّى ظهره لمطالب الثّوَار و انتظارات الكادحين والمقهورين من أبناء شعبنا. وإمعانا في الهروب إلى الأمام ، واتقاء للمساءلة والمحاسبة ، ابتكر لنا العقل المدّبر لقيادة حركة النّهضة حيلة ( الاستفتاء)، لترحيل عمليّة التقييم والمراجعة إلى أجل غير مسمّى، وهو ما ذكرني بحيلة شهيرة في تاريخ حروبنا الإسلاميّة كان مبتكرها ” عمرو بن العاص ” في معركة صفين، عندما انتصر جيش علي على جيش معاوية ، فسارع عمرو بالإشارة إلى معاوية بأن يأمر الجيش برفع المصاحف على أسنة السيوف والرّماح ، وطلب الهدنة والإسراع إلى التحكيم بين الفريقين. و كأنّ التاريخ يعيد نفسه ولكن في الاتجاه السيء .
أمّا استغرابك ممّا أسميتهم بدعاة الحوار بالأمس كيف ينقلبون اليوم إلى رافضين لهذا المسلك الحواري، فأقول أننا نحن دعاة حوار وإصلاح سابقا وحاضرا ومستقبلا، ولكن ما لا نقبل به هو الحوار المغشوش والقائم على الإكراه والغصب والتّدخل الخارجي في شؤوننا الدّاخلية.
هل تتوقع استقالات أخرى في قادم الأيام من حركة النهضة، وهل تنوي الانضمام إلى” حزب البناء الوطني”، هذا الاطار الوليد ” الغامض ” النشأة والتأسيس، والذي ما يزال يتلمس الطريق، ويبحث عن أرض يقف عليها، والذي يشرف عليه السيد ” رياض الشعيبي ” المستقيل حديثا هو أيضا من الحركة؟
أتوقع ذلك، فالإسلاميون أو أنصار الإسلام السّياسي، استطاعوا أن يوظفوا ما تعرضوا إليه من أذى و محن وظلم و أحكام جائرة في حقهم من طرف أنظمة الحكم الاستبداديّة المتعاقبة على أوسع نطاق ولكن كيفية تعامل هؤلاء مع السّلطة في أوّل فرصة أُتيحت لهم بددت كلّ رصيدهم النضالي، وكشفت الكثير من نقائصهم، فأصبحوا مثلهم مثل غيرهم في عيون جزء كبير من المواطنين، وهذا ما نزع عنهم تلك النّظرة المثاليّة الّتي كانوا يحظون بها لدى مُواطنيهم. فالنهضويون في تقديري الخاص، خسروا أكثر ممّا ربحوا من تجربة الحكم. وهذا ما سيكون له انعكاس سلبي على مناضلي ومناضلات الحزب.
أمّا عن إمكانية انضمامي لحزب البناء الوطني، فقد استمعت بكلّ انتباه لمداخلتين للسيد ” رياض الشعيبي ” مؤسس الحزب في منبرين مختلفي ، فوجدته مقنعا خاصّة لشخص مثلي، عايش تلك الإشكاليات من الدّاخل،
ولكن مسألة الانضمام الفعلي لهذا الحزب أو غيره، فإنّ الأمر لا يزال يحتاج إلى تريث وتفكير، فأنا بحاجة ماسّة لمسافة من الوقت أرتب فيها أولوياتي من جديد، وأريح فيها أعصابي.
ما هو الحصاد الذي خرجت به من هذه التجربة، والرصيد السياسي الذي جنيته طيلة هذه السنوات من الفعل والتواجد في الحقل الحزبي الإسلامي؟
الخلاصة التّي خرجت بها من هذه التجربة ومن إقامتي الطّويلة في فرنسا أنّ على الاسلاميين أن يعيدوا النّظر في برامجهم
وأولوياتهم السّياسية والاجتماعيّة، وأن ينطلقوا في عملهم السّياسي من أرضية وطنية متصالحة مع هويتها العربية والإسلامية باعتبارها مرجعية الأغلبية في أوطاننا العربية والإسلاميّة، وأن يتجنبوا إكراهات الإيديولوجيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. كما أنّ على الإسلاميين أن يقوموا بنقدهم الذّاتي بكلّ موضوعية دون أن يسقطوا كما هو حال بعضهم في عمليات جلد للذّات مستمرة ومثيرة لليأس والإحباط ، كما أنّه على الشّق الآخر منهم أيضا التواضع للحقّ والأخذ عن الآخرين أفضل ما عندهم دون حرج ما لم يكن حراما ، فالحكمة ضالة المسلم أنّى وجدها فهو أحقّ النّاس بها. هذا على المستوى الجماعي.
أمّا على مستوى الأفراد ، فلا ينبغي أن نُستدرج ويُنسينا حماسنا لخدمة الشأن العام واجباتنا الفردية نحو الله سبحانه وأسرنا وأصدقاءنا، ولا ننسى أبدا أننا ذاهبون ولهذه الدّنيا مغادرون ولربّنا منقلبون. لا ننسى أننا ميّتون وأن أعمالنا لمنقطعة لا محالة إلاّ من ثلاث كما قال نبينا صلّى الله عليه و سلّم : علم يُنتفع به ، وصدقة جارية وولد صالح يدعو له ، فهذه لعمري جماع الخير والعمل الصّالح المُصلح. يقول الله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صالِحا فلنفسهِ ، وَمَنْ أَساء فَعَلَيْهَا ، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) سورة الجاثية/ الآية 15. فنبيّنا صلّى عليه و سلّم بصريح عبارته يقول ( إنّما بُعث لأتمّم مكارم الأخلاق) وهو بلا منازع قدوتنا الأسمى و أسوتنا الحسنة و مثلنا الأعلى. عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : ( لا تحقرنّ من المعروف شيئا ، و لو أن تلقى أخاك بوجه طَلِيقٍ) رواه مسلم ، و قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الّذي أورده عَدِيٍّ بن حاتم رضي الله عنه ( اتَّقُوا النّار ولَوْ بشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَن لمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ) حديث متفق عليه. و( الكلمّة الطّيِّبَة ُ صَدَقَة ٌ) كما جاء في الحديث الّذي أورده أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
هذه بعض الخلاصات التي خرجت بها من هذه التجربة التّي غطّت أهمّ جزء من حياتي سائلا الله أن يعفو عنّي و يغفر زلاّتي الكثيرة و يختم لي بالصّالحات ويجعل آخر عمري خيرا من أوّله و يسترني وإيّاكم في الدّنيا و الآخرة ، إنّه نعم المولى ونعم النّصير
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire