رجل الإعلام المستقل
ليلة 12 سبتمبر 2015 أرسل لي صديق عزيز صورة له و قد بُترت ساقاه و قال لي أخي انظر ماذا بقي لي من هذا الجسد . بُترت ساقاه نتيجة لمخلفات التعذيب في سجون بن علي في بداية التسعينيات ، سنوات الجمر التي أعلن فيها الرئيس المخلوع الحرب على الإسلاميين و المتدينين ، حرب ذكرتنا بحملات التطهير الدّيني و العرقي التي كانت تقوم بها الأنظمة الفاشية لتبرير استبدادها و ترسيخ أركانها. صديق عرفته قبل الثورة بمقالاته الجريئة و مواقفه الصلبة في وجه الاستبداد في عهد المخلوع بن علي أوّلا ، و في وجه جزء كبير من معارضة الدّاخل و الخارج التي كان يعتبرها لا تقل استبدادا و انحرافا و انتهازية عن نظام الاستبداد ذاته . و التقيت به مرة بعد الثورة بسنتين في بيت أحد الاصدقاء . صورة حرمتني تلك الليلة من النوم ، فهي بقدر ما آلمتني و ذكرتني بمصيرنا المحتوم الذي تبدأ بداية نهايته في هذه الدّنيا بأبسط الأشياء و نحن لا نشعر بذلك في أحيان كثيرة ، ولكنها صورة أثارت في نفسي كمّا هائلا من الإعجاب و التقدير و الإحترام. صورة بُترت فيها السّاقان حتّى الركبتين ، و ذلك يعني أنّ الانسان قد فقد ثلث جسمه تقريبا .
إنّها إعاقة جسديّة ، و لكنّ هذه الإعاقة لم تنل من معنويات الرّجل و إباءه و شموخه. صورة تعكس قدرة الانسان السّوي على تجاوز العقبات و الإعاقات ، و لا يقدر على هذا في الحقيقة إلا شخص مؤمن بالله و مسلّم بقضائه و قدره و مقبل على الله غير مدبر . صورة تعكس ضحالة الإعاقة الجسدية مهما كانت أمام الإعاقة المعنوية و العقلية .
صديقي هذا بإعاقته الخطيرة هذه ، أنجز ما لم تنجزه الكثير من الهيئات والأحزاب بامكانياتها الضخمة المادية و المعنوية . هذا الرّجل قد نختلف معه في الكثير من المواقف و لكنه لوحده و بامكانيات معدومة استطاع أن يشق طريقه في كثير من المجالات الإعلامية و السّياسية و أصبح قلمه تخشاه في آن واحد السّلطة و انتهازهيو المعارضة من اليمين و اليسار . هذا الرجل كنت أشفق عليه وأنصحه بأن لا يفتح واجهات مع الكلّ في نفس الوقت ، و أن يصوب سهامه نحو الأخطر حتي لا يُعزل و يُشيطن من طرف الجميع ، و لكنه كان يقول لي إن مقاربتي للعمل الوطني ليست مقاربة مصلحية و لا حزبية و إنما هي مقاربة وطنية شامله و في سبيل الوطن يهون كلّ شيء و لا تهمني كثيرا مصلحتي الشخصية ، بقدر ما يهمني الوطن. كنت مشفقا عليه من سخط المتضررين و شراستهم بسبب مواقفه الراديكالية نحوهم ، ولكنه دائما كان يؤكد لي أن ديدنه هو قول الحقيقة و كشف المستور الذّي لا يُراد له الكشف حتى يعرف النّاس الحقيقة . و كان يقول لي الإعلام أمانة و جوهره قول الحقيقة كاملة غير منقوصة إن استطعت ذلك.إنّه الرّجل الّذي حاول النظام احتواءه ففشل ، و حاولت المعارضة أيضا أحتواءه ففشلت أيضا ، لأنه ، و لئن اختلفنا مع أسلوبه الاستفزازي في طرح المواقف والأحكام ، كان رجلا وطنيّا و مستقلا بأتم معنى الكلمة . إنه الرّجل الذّي لم تمنعه إعاقته عن قيامه بواجبه الوطني من خلال الدّور الإعلامي الرّائد الّذي قام به على امتداد عقدين من الزمن . هذا الرّجل هو الدكتور الصحبي العمري شفاه الله .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire